في ذات يوم هطلت أمطار غزيرة في القرية أغرقت كل الحقول لم يكون بمقدور موسى ممارسة العمل عاد إلى المنزل كغير عادته، دخل المنزل وهو ينادي بزوجته فلم يجيبه أحد وبحث عنها في أرجاء المنزل ولم يجدها فنادى إبنته وإذا بثواني تأتي مهرولة من قبالة المطبخ كانت تعد الطعام إلتفت فوجدها منتصبة أمامه كجذع النخل .. فسألها أين والدتك؟ تجيبه: لا أدري خرجت ولم تخبرنا كالعادة ولكن أظنها في منزل خالتي سعاد فهي غالباً ما تذهب إليها ..والدها: حسنا فلتحضري لي بعض الماء قدمت له الماء وجلست بمقربة منه تمعن وتدقق فيه النظر "كالسجين الذي ينظر للأشخاص الأحرار عبر قضبان سجنه" حائرة تجوبها الأسئلة يميناً ويساراً؟ اهو مثل أُمي سيوبخني إن أخبرته ام أنه غير ذلك وأثناء تفكيرها إلتفت إليها والدها وباغتها بسؤال ما بك ياعرفة؟ لما تحدقين بي هكذا اهناك خطب ما؟ فإرتعبت من سؤاله غير المتوقع وكان ردهــا لاشيء وأرادت الإنصراف إلا إن والدها طلب منها البقاء وأحس إن هناك شيء تريد أن تخبره به ولكنها خائفة منه بعض الشيء فيكرر لها السؤال ما بك؟ فنظرت إليه مطــولاً وكأن القط قد أكل لسانها! إستجمعت قواها وأخبرته إنها تريد أن تــتــعلم وتصبح مثل صديقاتها إنتصار وعواطف اللواتي أصبح كل حديثهن عن المدرسة والدورس فإنها تريد أن تكون مثلهن . الأب لم يتوقع مثل هذا السؤال لم يستطيع الرد عليها .. وظل صامت لبرهة من الزمن وكأن عجلة الزمان قد توقفت به والأسئلة تتهاكم على عقله كيف لم يخطر لي مثل هذا الأمر من قبل؟ إنها مشغوليات الحياة وتنقلاتي بين الحقول وأماكن الحصاد؟ ام أنه الفقر وضائقاته أنساني واجباتي تجاه أُسرتي وأبنائي؟ الأن عمرها قد تعدى سن دخول المدرسة؟ إني لم أحظى بالتعليم من قبل ولكن أبنائي سيدرسون وسيكون لهم مستقبل أفضل . وهو ينظر في أعين عرفة يرى إرادتها التي تفوق عمرها فقال لها حسناً ستدرسين وستكونين أفضل منهن جمعياً أعدك بذلك وأثناء حديثها مع والدها دخلت زوجة موسى وهي تحمل إناء به بعض التوابل سألها اين كانت فتجيبه: كنت عند الجيران نعد متطلبات شهر رمضان ألا تدري إنها فترة " عواسة الأبري " فقال لها كيف لكِ أن تخرجي وتتركي صِغارك لوحدهم تجيبه زوجته : عرفة لم تعد طفلة بعد الأن فهي تعلم كل شيء ويمكنها خدمة أخوانها ثم إني خرجت لأمر عاجل فنسوة الحي كن بإنتظاري .. موسى : حسناً .. أريد أن أستشيرك بشأن يخص إبنتنا لقد قررت أن أدخلها المدرسة فكانت ردة فعل الزوجة صادمة "عرفة لا تصلح لشيء لافائدة من دراستها" دعها تتعلم الطبخ والإعتناء بالمنزل ألا تدري عادات أهل القرية إن الفتاة التي لا تجيد الطبخ والخدمة المنزلية ..غير مرغوب بها للزواج ..فهي للأن لا تعرف الطبخ جيداً ومن ثم إن التعليم لا فائدة منه فأنظر أين الذين تعلموا من أهل القرية لا يعشيون مع أهلهم كل متعلم يرى إن القرية التي نشأ وترعرع بها لا تليق به وبمستواه التعليمي ألا تذكر ابن العمدة السابق الذي أحرج والــده أمام المـــــلأ عندما رفض البقاء بالقرية ومساعدة والده في الزراعة وذهب إلى الخرطوم.. موسى: لا يهمني فالبشر كالاصابع يختلفون كإختلاف الإبهام عن السبابة أريد لإبنتي أن تدرس فقط ودعـكِ من تعليقاتك وحديثك عن الأخرين, أنا وانت لم نحظى بالتعليم لماذا نعاقب طفلتنا بشيء لم يكن بإرادتنا لو كنا متعلمين لكان حالنا أفضل من الحال الذي نحن عليه الأن . وقال لطفلته غداً سنذهب للمدرسة وستكونين ضمن التلاميذ,عرفة لم تستطع إخفاء فرحتها فملامحها الطفولية تقول كل شيء لوالدها وتعبر عن فرحتها والأب ينظر لطفلته وهو يذهب بمخيلته بعيداً يرى إن إحدى نساءالقرية تطرق باب منزله وتطلب من إبنته قراءة الجواب الذي بعثه لها إبنها وكذلك يرى الحاجة سكينة وهي بإنتظار قدوم عرفة من المدرسة لكي تقرأ لها الرسالة التي بعثتها إبنتها التي تزوجت وأصبحت تعيش مع زوجها بمدينة بابنوسة منذ سنين طويلة لم تزورها ولكن تبعث لها بالرسائل بإستمرار, وكيف أن إبنتهُ ذات شأن في القرية لأن سكان القرية لا يحبذون المدراس ويعتبرونها لا فائدة منها سوى تعليم أبناؤهم الكســل والتمــرد ضدهم. في الصـــباح الباكر إستيقظ الأب باكراً إذ يجد طفلته قد إستيقظت قبله وفي إنتظاره ما ان رأوا شفق شروق الشمس كانوا حضوراً أمام أسوار مدرسة القرية التي بنيانها من القش وصغيرة الحجم والمساحة وفصولها بدائية مبنية من الطين ومسقوفة بالقصب, إنتظرا حتى قدوم المدير فقابله موسى وأخبره بشأن طفلته إلا إن المدير فأجاءه برد لم يتوقعه قط !! "نحن الأن في منتصف العام الدراسي إبنتك لاتستطيع الإلتحاق بالدفعة ولكن يمكنك تسجيلها مطلع السنة الدراسية القادمة " ما إن سمعت عرفة بحديث المدير أُجهشت بالبكاء وظنت إن المدير يكذب عليهما لا أكثر,خيبة الأمل الأكبر كانت تتجسد في ملامح والدها الذي أمسك بمعصم صغيرته وخطوات الخذلان والإنكسار تقوده بإتجاه مخرج المدرسة وهو في صمت تام وكذلك صغيرتهُ كأنهما غريبان لا يعرفان بعضهما وأثناء مرورهم بسوق القرية وهم متجهين صوب المنزل إذا بصوت ينادي موسى .. موسى !! إلتفت ليجد المنادي هو صديقه حميدان,ألقى عليه التحية وتحدث معه بشأن يخص محصول الفول السوداني لهذا العام وتخوف العمدة من كثرة الأمطار التي تتلف المحاصيل لاحظ حميدان إن صديقه موسى حزين بعض الشيء من خلال ملامحه العابسة إذ سابقاً عندما كانا يعملان سوياً في مزارع العمدة دائماً ما يراه متفائل وهما يعملان؟ فيسأل صديقه "إن شاء الله خير مالك متغير كدا اليوم" ؟ "بتك مريضة ولا شنو" ؟ موسى: لا.. لا لقد ذهبت للمدرسة لكي أسجلها ضمن تلاميذ القرية إلا إن المدير أخبرني إن العام الحالي على مشارف الإنتهاء؟ حميدان : ألا تعلم يا صديقي إن زوجتي تعمل مُعلمة بالمدرسة سأخبرها بالأمر وإن شاء الله سنـجد حلاً لمشكــلة طفلتك؟ عرفة لا تعرف من هو الرجل إلا إن نظرتها المتواصلة لم تنزاح عن هذا الغريب ولو لثانية وظلت تركز وتصغي لحديثة بكل حواسها, وصلا المنزل بعد يوم ثقيل عليهم, ليجد زوجته تجلس وهي تحمل صغيرها ؟ " أها الحصل شنو في المدرسة" أخبرها بالأمر لم تبديء إهتمامها بالأمر فلديها أمر يشغلها أكثر من موسى و إبنته إنه قد حان وقت القهوة تريد الذهاب لصديقتها وممارسة مهنتها المفضلة النميمة والسخرية من نساء القرية وأيضاً لا تريد لطفلتها أن تدرس لتحرم من متعة مزاولة هوايتها وتكون سجينة المطبخ وأطفالها, بعد أيام عصيبةعاشتها الطفلة من اليأس والحزن إذا بالباب يطرق ذهبت لترى من الطارق فوالدتها كالعادة غير موجودة وجدت الطارق ذلك الرجل الذي تحدث مع والدها وأخبره بأن زوجته تعمل معلمة !! سألها عن والدها إن كان موجود بالمنزل؟ أخبرته انه ليس موجود بالمنزل.. طلب منها أن تخبره عندما يأتي أنه بإنتظاره في منزله ..أحست إن سبب قدوم هذا الرجل هو بشأن دخولها المدرسة؟ ظلت تنتظر والدها بين الفينة والأخرى تذهب إلى بوابة المنزل لترى إذا كان والدها قادم إلى المنزل إلى أن أخيراً رأته وهو قادم نحو المنزل فلم تقاوم فرحتها فتقابله بمنتــــصف الطــــريق وهي مهرولة لتخبره بأمر الرجل أولاً ثم تساعده في حمل بعض الأكياس التي كان يحملها و قبل أن يصل والدها للمنزل تقترح عليه الذهاب لمنزل صديقه فإنه بإنتظاره فرحتها تنسيها كم التعب والإرهاق الذي على والدها ليتجها معاً صوب منزل صديق والدها فوجداه وبرفقته زوجته في إنتظارهم رحبا بهم وإرتشفوا بعض القهوة إلا عرفة لأنها تعتبر صغيرة من عادات وتقاليد أهل القرية إن للقهوة والشاي لها سن محددة تناقشوا عن موضوع دراسة الطفلة فزوجة حميدان التي تعمل معلمة عقليتها متفتحة دائماً ما تحبذ التعليم وتراه السبيل الوحيد للخروج من ظلم وجهل أهل القرية الذي يمارسونه في بعض عاداتهم وتقاليدهم ويروا إن مصلحة الرجل أن يسلك الإبن طريق والده في العمل والبنت خلقت لتتزوج وتكون أسرة فقط لا طموح لها أكثر من ذلك فأهل القرية ينظرون للمعلمة من زاوية مخالفة تماماً نسبة لنشأتها في المدن وإختلاطها مع مجتمع التمدن الذي بمثابة عدواً لهم ولعقائدهم وعاداتهم فدائماً ما يطلقون عليها " بت البندر " وبعضهم يظنها متعجرفة بسبب سعيها الدائم للتمسك بقراراتها حول بعض العادات السلبية ورفضها لها وتقديم حلول أفضل, ظناً منهم إنها تريد إفساد قوانينهم والإطاحة بها فأصبحت شبه منبوذة، المعلمة لموسى: كنت اعتقد إن طفلتك في السابعة أو الثامنة من عمرها ولكن لا بأس ليس هناك كبير على العلم غداً سأخبر المدير وسوف أقُنعه بقدر الإمكان بقبولها في المدرسة وبأني سوف اهتم بها وأعوضها عن ما سبقها من دروس وإن كان ذلك خارج المدرسة وعلى حساب وقتي الخاص وأيضاً هناك سبب آخر سيجعل المدير يوافق بدخولها لأن تلاميذ القرية كل عام في تناقص أهل القرية يرفضون دراسة ابناؤهم ويحبذون مساعدتهم لهم في الزراعة والأعمال المنزلية وفي ذلك منفعة لهم ولأبناؤهم أفضل من الدراسة التي تجعل أبناؤهم يتفوهون بكلمات ولهجات غريبة، طمأنته بأن لا يقلق وإنها سوف تهتم بموضوع إبنته وستفعل كل ما بوسعها من إجل دراسة الطفلة, في الصباح الباكر تحضر عرفة إلى المدرسة قبل قدوم التلاميذ والمعلمون, حضرت المعلمة وتحدثت مع المدير بأن تلاميذ هذا العام أقل من العدد المطلوب وألحت عليه حتى رضخ إليها وسمح للطفلة أن تنضم إلى صف المعلمة ,ايضاً راهنته على إنها قادرة على تعوبضيها عن ما فاتها, المعلمة تخرج من مكتب المدير وكأنها إنتصرت في حرب دامت عقود من الزمن لإنها غالبا ما تُقابل بالرفض في كل قراراتها من أهـــــالي القـــرية تيأس أحياناً ولكن لا تستسلم, تصطحب عرفة إلى المكــــــتب لتقـــــــدم لهــــــا بعــــــض الكراســـــات التي تجــلبها منظمة اليونيسيف كدعم للتعليم في القرى والأقاليم كمسـاعدات إنسانية وتعطيها أيضاً بعض الأقلام وأخبرتها أن تتوجة الى ذلك الفصل الذي أشارت إليه وإنها في غضون دقــائق ستكون بالفصــــل, دخلـــــت الفصل التلامـــيذ يعتقدون بأنها من تلاميذ الصف الرابع أو الخامس نسبة لعمرها وحجمها اللذان لا يشيران بأنها من الصف الأول دخلت المعلمة للفصل وطلبت منها أن تجلس بمؤخرة الفصل لانها طويلة بعض الشيء وستحجب بعض التلاميذ من الرؤية .. بنت الإحدى عشر ربيعاً ينصب كل تركيزها على ما تقوله المعلمة, تمر الأيام لتصبح مدمنة على كتبها فتجدها في المنزل في الشارع في الفصل تراجع دروسها حتى أثناء غسيلها للاواني وجدت طريقتها الخاصة لحفظ الحروف الأبجدية فترتبهم حسب ترتيب الحروف لتساعد نفسها في عملية الحفظ وظلت تذهب للمعلمة في منزلها لتعيد لها بعض الدورس التي لم يسبق لها دراستها, تميزت بين التلاميذ فأصبحت من أكثر التلاميذ إجتهاداً ومثال يحتذى به ودائماً ما تفتخر بها المعلمة في سنتها الأُولى كانت من ضِمن العشرة الأوائل وفي عامها الثاني كانت الأُولى بين قريناتها يتفاخر بها والدها في القرية السنين تمر كالبرق وهي تتقــدمهن بعد مرور ثلاثة أعوام رجال القرية يجتمعون أمام منزل موسى و يخبروا زوجته إنهم عثروا على جثة زوجها في إحدى مزارع العمدة قتل بواسطة جماعة من قرية تجاورهم بسـبب خلافات يمتد أصلها لعشرات السنين حول الأراضي الزراعية والمرعى قتل غدراً وهو أعزل الأمر الذي أدخل زوجة موسى في نوبة من الصياح و النواح فهي الآن ليس لديها من يعيلها بعد ذلك أحست بقيمة زوجها بعد أن فقدته .عرفة كأن أبواب الدنيا قد أغلقت أمامها سندها وتاج رأسها قد ذهب بلا عودة بين ليلة وضحاها لا تملك سوى دموعاً من الحزن والحسرة ظلت تبكي لأيام, فنعمة الأب لاتُضايها نعمة, باب الأمان والطمأنينة يُغلق ولا تدري ماذا تفعل بعد وفاة والدها الذي كان يعني لها كل شيء في حياتها ولكن انها سنة الحياة تأخُذ من تريد حيثما تريد, يومياً هناك من يغادرون الدنيا دون أن يودعوا أعـز أصدقائهم وأهلهم وهناك قادمون لا يدرون ماذا تخبيء لهم الحياة....
يتبع......