الفصل الثالث | ولادة السجم 02

222 8 2
                                    


ها هو ياسر يكمل عامه السادس وهو على هبه أن يدخل المدرسة اللحظة التي تحلم بها عرفة .. طفل الأمس الذي لم يفرق بين الحلوى والمكياج هو الأن يرتدي ملابس المدرسة كل صباح يذهب لمدرسته ويأتي عصراً فتكون كل الأسرة بإنتظاره الأم والخالة والجدة وحتى الخادمات يعامل في المنزل كأنه ولي العهد المنتظر الكل يخدمه ويقدم له المساعدة, والدته تراجع له دروسه حرفاً حرفاً لا تتركه ينام دون أداء وجاباته فأصبح يتمرد عليها ويميل لمزدلفة أكثر من والدته حاله كحال معظم الأطفال لا يحبذون الضغط والتعامل الجدي يميلون دائماً للشخص الذي يتعاطف معهم ويجلب لهم الحلوى و يذهب معهم للتنزه او يشتري لهم الملابس .. ياسر وجد كل هذه الأشياء عند مزدلفة فهي لم ترفض له طلباً يوماً ولم تضربه كوالدته التي تضربه عندما يغضبها .. أكمل عامه الأول وهو يتفوق على أقرانه في المدرسة يأتي مسرعاً وهو ممسك بنتيجته التحصيلية لنهاية العام الدراسي ليزف خبر نجاحه لوالدته وخالته بأنه الأول الفرحة التي تغمر والدته أكبر من فرحته هو بالنجاح حلمها تحقق عبر طفلها ياسر ما أجمل أن نتمسك بطموحاتنا مهما ضاقت بنا الحياة .. وما أجمل النجاح بعد جهد ومثابرة دامت لسنين بدايتها غرثها جيل وقطف ثمراتها جيل أخر, عجلة الزمن تتسارع ولا مجال لإيقافها من أجل الإستمتاع بلحظات سعيدة فتدور كما تدور الأرض حول الشمس والقمر حول الأرض أيام سعيدة وأخرى مريرة , مزدلفة التي تصغر عرفة بعامين أصبح لابد لها أن تتزوج وتكون أُسرة .. فتقدم لمزدلفة شاب أسرته لها علاقة وطيدة مسبقاً مع والد مزدلفة المتوفى وافقت الأسرة بالزواج بما فيهم عرفة إستشيرت بالأمر الذي أسعدها جداً إن صديقتها أخيراً ستدخل حياة أخرى وتكون أسرة مستقلة , زوج مزدلفة المستقبلي شاب وسيم ومحترم جداً يقيم بكندا قدم للسودان من أجل الزواج فقط .. بعد فترة قصيرة تم الزواج وسط فرحة كبيرة بين أفراد العائلة لم تدم طويلاً لأن أجراس البعاد و الفراق أصبح رنينها بمقربة من الأسرة وكل يوم رنينها يقترب أكثر فأكثر إنه موعد سفر مزدلفة برفقة زوجها للإقامة بكندا.. ها هما يحملان الحقائب متجهون صوب مطار الخرطوم لتودِع أم ياسر أعز صديقة لهأ بل أختاً لها فهما كالتوأم الذي يولد بجسد متلصق لم يفترقا منذ للقاءهما الأول ها هي الطائرة تقلع من المطار تحلق في السماء لتحمل في داخلها قلب عرفة وتختفى خلف السحب وهي لا تعرف متى ستعود صديقتها قبل دقائق قليلة كانت تشاركها مقعد السيارة والأن ترجع إلى المنزل لوحدها تتحسس المقعد الذي كان يحملهما سوياً تعلم إن عليها أن تعود لتمارس حياتها فالأيام كفيله بأن تعلمها إن دوامة الحياة لا تتوقف حتى تعود إليها صديقتها ..أصبح المنزل كالمقبرة لا أحد يضحك فيه, لتتبدل فرحة الأمس لأحزان بعد مغادرة دينمو السعادة فكيف لمصباح السعادة أن يضيء؟ ومن أين سيستمد طاقته؟ حال أم ياسر لايوصف بكلمات بعد سفر صديقتها فكيف لجسم متحد أن يفقد أحد أطرافه دون توقف وظيفة ما لا يستطيع طرف أخر القيام بمهامها, السنين تمر سريعاً الطفل الذي كان بالأمس يفاعاً يلعب بأرجاء المنزل الأن في المرحلة الثانوية ولكن يبدو أن والد الطفل "محمود " رحل عن الدنيا ولكنه ترك إرثه لمن هو أجدر منه, ياسر يبدو إنه نسخة من والده أصبح سريع الغضب كثير الإنفعالات والشجارات لا يمر يوماً أو يومين إلا ونجد أحداً يطرق باب المنزل يشتكي منه لا يوجد أحد بالحي يسلم من شجاراته ..ووالدته لا ترى سوى إنه محمود أخر بعث بإسم جديد يدعى ياسر الخوف ينتابها تدعو ليلاً ونهاراً أن يكذب ظنها .. دعائها الدائم في الطريق الصحيح يتضح إن ياسر الذي ظنته محمود القادم ما هو إلا صبي في طور المراهقة ليعود لياسر الذي تعرفه, عجلة الدهر تزيد من إيقاعها المتسارع مرة أخرى , ياسر ينهي المرحلة الدراسية وهو متفوق في دراسته ويصبح حديث الكل وأصبح حديث الساحة الإعلامية جعل والدته تفتخر به ورأسها عالياً وكذلك جدته الروحية فصوره تزين طرقات العاصمة واللوحات الإعلانية والأعمدة الكهربائية والمركبات العامة, والدة مزدلفة أصبحت كبيرة في السن تحدثت مع عرفة بإنها تريد الذهاب لبورتسودان للبقاء ما اخيها متبقي أيامها في الحياة فهي لم ترى أخيها منذ فترة طويلة وكذلك هو لم يزورها ومزدلفة التي لم تسمع عنها شيء منذ سنين طويلة, الحياة تصفع مجدداً المنزل سيفقد شخص أخر كانت تستمد منه عــــرفة حنــان الأم, المنـــــزل الذي كان ينبُـــض بالمرح والتفاؤل أصبح خاوياً لا يحوي بداخلة سوى الذكريات الرائعة لتطوف أم ياسر الغرف لتستحضر ضحكاتها شجاراتها مع أختها التي لم تسمع عنها شيء منذ مغادرتها مطار الخرطوم تستحضر كل تفاصيل حياتها بالماضي وكأنه الأمس, ياسر تم قبوله بأعرق الجامعات السودانية حلم الأم تحقق كما ينبقى بواسطة نجلها ولكن لاتعلم ماذا تخبئ لها الأيام فنجاح إبنها الباهر يتحول لغرور ويرى الكـــل تحت قدميه كـــأنه فتى زجاجي قابل للكسر متعجرف نظرته للغير دونية, تطاوله يصل حتى للأم التي أنجبته وحملته تسعة أشهر وهو يتغذى من دماءها أصبح لا يلقي لحديثها ونصائحها بالاً فحديثها ما هو إلا هراء بالنسبة له فهي من جيل لايفقه عن تطور الحياة الشيء فأصبح جل وقته ملك لأصدقاءه الجدد الذين يراهم من مقامه السمردي والرفيع جداً فعندما يستدعى زملاؤه للمنزل يغضب من عفوية وبساطة والدته التي تعامل بها أصدقاؤه يعاملها بحضورهم وكأنها خادمة عنده " ما أبغض تلك الأيام التي تنسينا من نحن ومن أين أتينا وكيف أتينا " ياسر يتخرج من الجامعة دون أن تعلم والدته بيوم تخرجه فهو لم يخبرها ظناً منه إنها لا تليق بالمجتمع الذي يشاركه فرحته في التخرج, بعد تخرجه أصبح شخص ذو شأن وباع طويل حيث أصبح يعمل مهندس بإحدى الشركات الكبرى في السودان, العمل الجديد يسلب منها إبنها كلياً أصبحت وحيدة بالمنزل أسيرة الجدران لا أحد يتحدث إليها تظل وحدها ساهرة لوقت مـتأخر من الليل لـتطمئن عليه لا يستريح لها بالاً مالم تراه يعتب أبواب المنزل رغم رفضه لها وفي الصباح الباكر يغدو إلى عمله كأن بالمنزل لا يوجد أحد غيره حلم الأمس الذي كانت تتمناه أن يحققه لها فلذات أكبادها تحقق ولكن بشكل عكسي طفلها الذي كانت تخاف عليه من حر الصيف وبرد الشتاء هو الأن لا يعطيها من وقته ولو دقائق للتحدث والجلوس معها رغم كل ذلك تضع له الأعذار بأنه صبي يافع لايفقه للحياة شيئاً وسيعود إليها يوما ما إن يعرف قيمتها, الباش مهندس يقرر الزواج ولم يخبر والدته كذلك ولكنها علمت من خلال تجهيزاته للمنزل .. ليأتي يوم السعد الذي تتمناه كل أم لإبنها طفل الأمس الذي كان يتم غسله من فضلاته عندما يتغوض على ملابسه الطفل الذي لا يفرق بين الحلوى و مستحضرات التجميل أصبح رجلاً له زوجة وقريباً سيكون له أطفال ليمتلئ المنزل فرحاً وهم يلعبون حول جدتهم ولكن مطرقة الحياة تضرب وبكل قوتها .. أم ياسر بعد زواج إبنها اصبحت أكثر وحدة من ذي قبل حيث أصبح حلمها الأن أن ترى إبنها صباحاً ومساءاً ولا ترغب بشيء أكثر من ذلك, إبنها يزيد في تهميشه لها قام بتعديل المنزل ليتناسب مع ذوق زواره قام ببناء غرفة خارج المنزل في الفناء الخلفي للمنزل لآن والدته لا ترتقي لمستوى السكن بمنزله الأسطوري الجديد الأمر الذي أغضب الأم ولكنها إلتزمت الصمت وهي وبالداخل تحترق وتتقطع من سوء المعاملة التي تتلقاها من إبنها مما تسبب لها بمرض ضغط الدم وضاقت بها الحياة أصبحت لا تحتمل البقاء معه للإهماله وعدم الإكتراث لأمرها بالإضافة لسوء معاملة زوجته كذلك فطلبت منه أن يأخذها للقرية التي أتت منها حيث لا تدري أين هي .. لتكمل متبقى أيامها مع أخوانها إن عثرت عليهم حتى يقبض ملك الموت أمانته, فهي خرجت من القرية وهي بنت يافعة لا تعلم عن الحياة شيئاً ستعود للقرية وهي محملة بالدروس التى لقنتها لها الحياة تلك الفتاة التي قدمت مع زوجها الهارب من القرية خوفاً على حياته ليتركها في منتصف الطريق حائرة وهي تحمل طفله لتتكفل بتربيه هي وحدها الأن تقبض جمرة بيدها لم تحس بحرارتها عندما كانت بداخلها .. الباش مهندس ياسر ابن العاصمة وليس ابن تلك المرأة القروية, تريد أن تعود وهي على أمل أن تجد أخوانها ما زالوا يسكنون بالقرية فوالدتها حتماً ستكون قد توفيت,ولكن ابن العاصمة يرفض طلب الذي حملته منذ أن كان نضفة بحجة إزدحام جدوله العملي ثم إنه لا يرغب بالمغمارة والبحث عن مثل هذه القرى حيث لا يوجد قانون أو أمن او حتى مكيفات كُهربائية تنفث الهواء البارد, ما هي إلا ثواني والأم تدخل في غيبوبة غضباً من إبنها لا تصحو إلا وهي في المستشفى مستلقية على فراش وهي عاجزة تماماً عن الحركة كعجز طفلها عندما إلتهم المكياج لا تتحرك إلا مقلتيها وهي تسمع حديث الطبيب مع إبنها " إن والدتك الأن مشلولة تماماً بسبب جلطة في المخ على أثرها توقفت وظائف الجهاز العصبي ولن تستطيع العودة للحراك والمشي مرة أخرى " الأم المناضلة المحبة لإبنها التي فعلت المستحيل في صحتها من أجله الأن تحتاج للرعاية من طعام وشراب حتى الغسل عندما تقضي حاجتها أو الإستحمام أو حتى عندما تريد أن تنام على شقها الأخر تحتاج لمن يساعدها ولكن الباشمهندس (خلا) نفسه لا تسمح له بفعل كل ذلك كأنه ولد على هيأته لم يتم غسله عندما يتغوض على ملابسه من قبل بمقدروه أخذ والدته إلى المنزل والإهتمام بها كما فعلت له وهو رضيع وأن يحاول ولو لمرة أن يوفيها مثقال ذرة من حقها الذي لو فعل مافي الدنيا وما عليها لن يستطيع أن يستوفيها حقها بل لن يستطيع إيفاء حق آلام طلقة واحدة من طلقات الولادة وهي تولده ولكنه إتخذ القرار الذي كانت تريده بعد ان أصبحت لا تريده قرر أخذها للقرية لانه يرى لا جدوى من بقاء جثة هامدة معه بالمنزل, بعد أيام وليالي من السفر والبحث المتواصل ها هم على مدخل القرية الملكية تقف العربة بساحة القرية الشاسعة التي كانت يوماً سبباً في خروج والدته من القرية ها هي تعود إليها وهي محمولة بمساعدة أشخاص لا تستطيع الوقوف على أرجلها ليلتف سكان القرية حول هذه العربة الغريبة التي لم يروا مثلها من ذي قبل لينزل منها شاب وسيم يرتدي بذلة أنيقة ليخاطب عمدة القرية ويسأله عن إخوة يدعون خالد وسالم ووالدهم يدعى موسى قتل منذ فترة طويلة وله زوجة تدعى عوضية ليخبره العمدة إن عوضية توفيت منذ فترة ليست بالقريبة وكذلك خالد قتل غدراً في حادث مماثل لحادث والده ولكن أرشدهم إلى منزل سالم, فهو ما زال يعيش بنفس المنزل القديم للأُسرة يذهب ليقابل سالم في بوابة منزله فينطق الشاب الوسيم شكلياً وقبيح أخلاقياً إن هذه المرأة العاجزة المحمولة على أكتاف أهل القرية ما هي إلا أختاً لسالم تدعى عرفة كانت تقطن معه بنفس هذا المنزل في الصغر وهو أتى بها إليه بطلباً منها وتحقيقاً لرغبتها وخاله يجهل به من هو هذا الشاب, لم يقل أبداً إنه إبناً لهذه المريضة لآنه يعلم إنها لا تستطيع النطق ولكنها تستطيع السمع في الصباح الباكر ياسر يخبر خاله الذي لا يعلم بحقيقة أمره إن وقت المغادرة قد حان.. و قبل أن يغادر المكان يتحدث إلى خاله سالم وهما خلف اسوار المنزل فيقول له: " كنت أريدها أن تعيش معي ولكن أنا متزوج الأن وسأرزق بأطفال قريباً لا أحتمل رؤية أطفالي وهم ينظروا لأُختك وهي تعاني بسبب مرضها وأيضاً كانت هذه رغبتها وأمنيتها أن تعيش مع أحد من أفراد أسرتها" الحديث الذي تسمعه والدته وهي مستلقية أسفل الشجرة إذا بدمتعها تسيل على خديها من حرقة الألم وهي تنظر عبر فوهات القصب لعربة طفلها الحلم وهي تتوارى خلف أشجار الغابة لأخر مرة في حياتها ..... النهاية تمت بحمد الله ... عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة وترك أبويه يبكيان فقال : ( ارجع إليهما وأضْحِكْهُما كما أبْكَيْتَهُما )

صحيح – التعليق الرغيب 🌹🥰 تقبلوا تحياتي الكاتب /حسن صالح برام



اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
طموحات في الوحلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن