🍀خنجر في كريت🍀
جلست توني فريمان الى طاولتها المعتادة في ملهى تافيرنا تنظر الى الراقصين وتنتظر تقديم الغداء وفيما عدا اندرولا التي كانت تساعد والدها على ادارة المطعم ..كانت توني المرأة الوحيدة هناك.
وعادت الذاكرة بها الى الماضي ... وتذكرت صديقتها منذ عامين حين كانتا تقضيان عطلة في اليونان تقول: إنني أكره الجلوس في مثل هذه المقاهي ...ألمح على وجه كل رجل علامات الرجاء والرغبة!.
يومها ضحكت توني وهي تسمع صديقتها تضيف :إذا كان هؤلاء الرجال يودون فعلاً إمتاع عيونهم بجمال المرأة فلماذا لا يصطحبون زوجاتهم معهم؟
وبعد ذلك بعام واحد اشتاقت توني إلى زيارة اليونان مرة ثانية , وكانت قد تقدمت بطلب للحصول على وظيفة في كريت حيث يقيم عمها-الذي تزوج بفتاة يونانية بعد الحرب-واستقر هناك....وكان صاحب الفندق الذي تعمل فيه يحاول دائما إغوائها والخروج معها,الا انه من حسن حظها انها وجدت بعد فترة قصيرة في صاحب شركة سياحية رجلاً أقل ميلا الى الغزل...وكان هذا العمل الجديد فرصة مناسبة لتستغل اللغتين اللتين تعرفهما جيدا الأنكليزية واليونانية.
وقد ألفت توني الآن الرجال الذين يترددون على مقهى بافلوس والذين كانوا يشركونها دائما في مناقشاتهم بعدما سرتهم معرفتها بلغتهم.
وبمجرد ان ظهرت اندرولا تحمل غداء توني -جلس شاب كريتي الى مائدتها فردت عليه تحيته وهي تبتسم.
وقال ملاحظا:
السمك البربوني يبدو طيبا - أعتقد انني سأختار الغداء منه ..."
ووضع الشاب جريدته على المائدة وكانت تحمل عنوانا كبيرا لفت نظر توني ...وانطلق الشاب الكريتي يقول في لامبالاة:
"لقد شاهدت هذا الحادث..."
واتسعت عيناها في فزع وهي تقول:
"رأيته فعلا ...ياله من حادث مروّع"
"كان الحادث أخذا بالثأر - لقد دخل الرجل الى المقهى الذي كنت جالسا فيه وأغمد السكين في ظهر الشاب...وانتهى الأمر كله في ثوان.."
وارتعدت فرائص توني , كانت قد أصيبت بالذهول عندما سمعت لأول مرة بحادث ثأر , ودهشت كيف تستمر هذه العادة الوحشية في بلد كاليونان لكن هذه العادة بقيت فقط في ماني , وكريت...وبرغم ان القضاة المستشارين مصممون على قمعها الا انه يتعين عليهم ان يتصرفوا بحذر شديد عند معالجة مثل هذه العادة القديمة الراسخة , ومع ذلك فان هناك أحكاما تصدر الآن بينما جاء وقت كانت فيه عملية الأخذ بالثأر مقبولة وان القتلة يطلق سراحهم.
والتقطت عيناها بسرعة السطور التي تلت عنوان الصحيفة وقرأت : علم غلافكوس اخيرا انه منذ عشرين عاما كان جد الشاب قد قتل أحد أقاربه ...وعندئذ صمم غلافكوس على الأنتقام , لأنه حسب العادة لابد ان تسيل الدماء.
ودمدمت توني :
" إن ما يحدث ليس فيه شئ من المدنية يا سافاس , فلماذا تبقون على هذه العادة ؟"
وهز كتفيه قائلا:
"ان كثيرين منا لا يعتقدون ان ذلك صواب ...لكنه من سوء الحظ ان هناك ايضا من يؤمنون بأخذ الثأر ... وخاصة المسنين الذين لا يزالون يتمسكون بالتقاليد, ولذلك فإن هذه العادة ما زالت قوية في كثير من القرى"
"لا أصدق ان مثل هذه العادة لا يمكن رفضها فورا , ان اليونان برغم كل شئ هي البلد الذي يرتبط في ذهن المرء ببدايات المدنية الغربية ومع ذلك فإن هذه العادة بدائية تماما.
وصفق سافاس بيديه كما يفعل اليونانيين محاولا لفت نظر اندرولا , كانت تحاول اخذ طلبين مرة واحدة ومالت برأسها في حركة اعتذار لأنها جعلت سافاس ينتظر . وأضاف سافاس :
"من الواضح انها أثر من آثار الوثنية ...ربما كنا على قدر كبير من المدنية والثقافة , ولكن لا تنسي اننا كنا نعبد الأوثان.."
وقطبت توني جبينها وهي لا تزال غير قادرة على تقبل ان هناك رجلا يمكن ان ينظر الى القتل على اعتبار انه واجب . وتطلعت الى الراقصين الذين هم كانوا يؤدون رقصة الندوزاليس , وهي رقصة الحرب , كان يؤديها في الأصل العسكريون وأخذت ترقب الراقصين مبهورة .فلا شك ان هناك مناسبات تتكشف فيها وثنية اليونان القديمة.
وضحك سافاس من تعبيرات وجهها , وقال :
"مثل هذا الوجه الجميل ينبغي ألا يتجهم أبدا"
ولم تعبأ توني بهذا الإطراء , فلم تقابل أبدا يونانيا لا يتقن الغزل والمداهنة ,وقالت وهي تمسك بقطعة السمك في صحنها :
"أفكاري هي التي تجعلني مكتئبة ... ولو كنت قاضية هنا , لأصدرت أحكاما طويلة بالسجن , ان هذه هي الطريقة الوحيدة للقضاء على عادة الثأر الرهيبة.
"ولكن لماذا يحكم على شخص بعقوبة صارمة بالسجن عندما تكون أسرته هي التي أرسلته لتنفيذ القتل ؟ وعندما يكون هو على يقين انه ينفذ واجبه؟"
واعترفت توني في تردد بعد تفكير :
"افهم هذا الى حد ما لكنه واضح ان هذه العادة يجب ان يقضى عليها"
"سيمضي وقت طويل , ألا تعرفين ان هناك من يعتقد بضرورة تنفيذ الإنتقام حتى لو كان القتل قد حدث بدون عمد...."
ونظرت اليه في استنكار وهي تقول :
"لابد انهم متعصبون اذن!"
ورد سافاس :
"من يعتقد في مثل هذه العادة لابد ان يكون متعصبا "
كانت توني لا تزال تفكر فيما قاله سافاس وهي تغادر المقهى ولم تكن تدري انها ستكون بعد قليل متورطة في عادة الأخذ بالثأر البدائية في كريت... بعد ثلاثة أسابيع على ذلك , اقترب منها رجل - اثر اغلاقها المتجر الذي تعمل فيه واتجهت الى سيارتها - وطلب منها ان تنقله الى منزله وهي في طريق عودتها , كان يونانيا , وبعد ان استفسرت منه عن وجهته , ابتسمت له وفتح باب سيارتها , وبرغم انه كان عليها ان تخرج عن عادتها وافقت على إصطحابه معها لأنه كان رجلا مسنا جدا...
وسألها:
" هل تعملين في وكالة بثرو السياحية؟"
وابتسمت وهي تقول :
"نعم"
حتى في مدينة هيراكليون الكبيرة كان كل شخص يتدخل في شؤون غيره. وسألها:
"هل تعجبك هذه الجزيرة؟"
"تعجبني جدا في الواقع"
"حفيدي يعيش في رودوس, انها جزيرة جميلة ايضا , هل ذهبت الى هناك؟"
وهدأت توني سرعة سيارتها عند اشارة المرور , ثم عادت الى السرعة وسألت الكهل قائلة:
"كلا... ولكن هل تقيم في هيراكليون بصفة دائمة؟"
وأخذت تتطلع الى الرداء الوطني الذي يلبسه ,الشباب هنا لايرتدون أبدا هذا الزي هذه الأيام . المسنين من الرجال يعتبرونه اكثر راحة من البنطلون .
"انا اسكن في قرية بعيدة هنا بعيدة جدا, يمكن ان تقولي انها معزولة تماما عن المدينة"
"وهل تعجبك الإقامة في هيراكليون؟"
"اعتدت عليها الآن"
واستمر الحديث بينهما حول هذه الموضوعات العابر الى ان وصلا الى البيت الصغير المكعب الشكل .
"ألا تتناولين مشروبا منعشا معي؟"
هذا السؤال توقعته توني وقبلت الدعوة برغم العمل الكثير وكتابة الرسائل التي تنتظرها . لكن كرم الضيافة اليوناني الذي يتسم بالتلقائية والأخلاص لا يجب رفضه أبدا. فقالت:
"أشكرك جدا , هل وقفة السيارة مناسبة ؟"
"تقدمي بها مسافة أخرى الى الأمام ثم أطفئي أضوائها , وتقدمها وهما يصعدان السلم وفتح الباب وطلب اليها ان تدخل الى غرفة الجلوس حتى يفرغ من اعداد المشروبات وقالت توني وهي تتجول في الغرفة :
"انت تعيش بمفردك هنا؟"
"بمفردي تماما , توفيت زوجتي , وتزوج كل ابنائي"
وجالت ببصرها ارجاء الغرفة , انه الأثاث الثقيل المعتاد , والتحف القديمة , والأيقونات المعلقة في الجدران , والتطريز على الكراسي ,ووقع نظرها على الجدار ورأت أثرا لشئ أزيل ثم انتقلت نظرتها الى المائدة والى الخنجر الموضوع هناك . كان منظره كريها برغم انه موضوع في غمده , وكان العبوس يبدو على وجهها عندما دخل الرجل المسن أخيرا وهو يحمل صينية ...وعندما مدت يده لتأخذ فنجانا صغيرا من القهوة التركية , أزاح جانبا وأعطاها الفنجان الآخر , وأوضح لها بسرعة:
"هذا الفنجان قليل السكر , والأنكليز لا يحبون السكر الكثير"
وتنبهت توني الى الموقف فجأة بعدما لاحظت نارا تتوهج في عيني الرجل , كان شيئا غريبا , لكنها لم تستشعر مثل هذا الخوف من قبل وهي في صحبة يوناني حتى ولو كان شابا, الا انها احست بالقلق مع هذا الرجل المسن . وان لم يكن شعورا بالخوف فهو على الأقل شعور لا يبعث على الراحة.
"ألا تجلسين ؟ أشربي قهوتك" واقترب منها , كان طويلا نحيلا وشفتاه مزمومتان , ورفع الفنجان الى شفتيها وقال :
"اشربي قهوتك"
لكنها اعادت الفنجان الى الصينية.
"لا أعتقد أنني سوف أبقى هنا"
قالت هذا بهدوء ونهضت واتجهت الى الباب .
وقال الرجل" انه موصد"
واستدارت ببطء ونظرت اليه , أصدقاء توني في بلدها يعرفون عنها انها لا تخشى شيئا , وتستطيع مواجهة أي موقف , فقد كانت تنحدر من سلالة عسكريين مقاتلين شجعان حصلوا على أوسمة , وكانت سمات هذه الشجاعة المتأصلة تبدو على كل قسمات وجهها الجميل . وانعكست على نظرتها الثابتة وعلى نبرات صوتها وهي تقول له:
"لا أعرف ما تنوي عمله , ولكنني أؤكد لك أنني أستطيع حماية نفسي . أفتح الباب من فضلك"
وسادت فترة من الصمت ثم قال الرجل برقة:
" سوف أقتلك .."
ثم رانت فترة صمت أخرى , وبصورة آلية إتجه نظر توني الى المائدة وقالت:
"عليك ان توضح ذلك , انك حتى لا تعرفني."
ولم يكن يبدو في نبرات توني الهادئة أي بادرة خوف , كان الرجل مسنا جدا, ولم يخطر في بالها أنه سيتغلب عليها بقوته.
وقال الرجل :
"أعتقد أنك أقمت في هذه الجزيرة أكثر من عام ؟"
كان الرجل يقف قريبا من المقعد حيث كانت تجلس قبل ان تهب واقفة ومتجهة الى الباب وبدأت يداه تتقلصان وتتحركان.
وقالت توني :
"هذا صحيح.."
" ولا بد انك سمعت عن الأخذ بالثأر إذن .."
" بكل تأكيد سمعت عنه ... ولكن هل يعنيني ذلك في شئ ؟ يبدو أنك ارتكبت خطأ ... لابد انك اخترت شخصا غير الذي تقصده ...."
"أسمك انطونيا فريمان.."
وردت في حيرة ودهشة ..
"نعم لكنك ..لا تعرفني ....وأنا واثقة جدا أنني لا أعرفك"
وأخذت تتفرس في ملامحه .
" كان شقيقك هنا يمضي عطلة منذ شهرين ....أليس كذلك؟"
وشحب وجهها قليلا , وتذكرت ما قاله سافاس لها .. ثم رفعت خصلات شعرها عن جبهتها المبتلة بالعرق . وقالت :
"نعم حضر ليزورني"
"لقد قتل شقيقتي العجوز المشلولة"
"كانت مجرد حادثة . ولم يكن قتلا متعمدا , وقد برأته محكمتكم هنا في دقائق"
"صحيح برأته المحكمة ولكنني لم أحكم أنا ببراءته , لقد كان يقود سيارته بإهمال . لأنني لا أستطيع الذهاب الى انكلترا لقتله , فيجب أن أقتلك أنت بدلا منه إنه واجبي طبقا لعادة الأخذ بالثأر . أن نسيل دم القاتل أو أحد أفراد عائلته ."
وهكذا واجهت توني أحد المتعصبين ممن تحدثت عنهم مع سافاس . كان واضحا أن عقلية الرجل متخلفة . وقالت توني بأسف حقيقي :
"أعترف أن حظ شقيقتك كان سيئا ....سيئا للغاية حقا , ولكن تذكر انها نزلت الى شارع مظلم تماما بدون إعطاء أي تحذير , ونظرا لأنها كانت ترتدي الملابس السوداء فإن شقيقي لم يرها ..."
"إننا نسير دائما في الشارع ... ونساؤنا دائما متشحات بالسواد ..خاصة المسنات منهن كما تعرفين "
"ولكن شقيقي لم يكن يعرف ذلك , وكيف له ان يعرف ؟ كان قد وصل منذ فترة قليلة .."
واستطردت تقول في نبرات رقيقة :
"صدقني وبرغم تبرئته الا انه ما زال يشعر بالذنب , وفي كل رسائله لي ما زال يشعر بالأسف لأنه جاء الى الجزيرة. كما ان والدي ووالدتي لا يزالان يعانيان من اضطراب معنوي شديد بسبب الحادث "
ودمعت عيناها الخضراوان وهي تفكر في المأساة التي أصابت أسرتها بسبب تصرف السيدة العجوز المشلولة التي وقفت أمام سيارة شقيقها . كان أخوها وأبواها كما قالت توني لا يزالون يشعرون بالتعاسة أما توني فلم يمر عليها يوم بدون ان تتذكر فيه هذا الحادث المؤسف .
ورد الرجل :
" ولكنهم سيشعرون بأنزعاج أكثر لوفاة أبنتهم فسوف تموتين بالسكين"
وألقت توني نظرة على فنجان القهوة الموضوع على الصينية , وبادرها بقوله :
"كنت أفضل أن أجعلك تغيبين عن وعيك لأنك أمرأة , لكن ذلك لا يهم الآن , فلن تتألمي لفترة طويلة . لقد قتلت كثيرا من المواشي , ولم أدعها تعاني فترة أطول مما يجب "
ولمعت عينا الرجل بالشر المتوقع وقال :
"هل تخافين ؟ قلت لك أنك لن تتألمي طويلا "
وانتزع الرجل الخنجر عن فوق المائدة , وكان يحاول أن يخرجه من غمده عندما قررت هي أن تتصرف , وكادت ان تتفوق عليه بقوتها ولكنه استعاد توازنه وكانت الثواني التي اعقبت ذلك كفيلة بأن تجعل توني تعترف بأن مظهره يخدع من يراه فقد يكون جسده هرما وعقله مختلا لكن عضلاته ما زالت قوية .....
ونظرا لأن توني تدرك تماما مدى رسوخ هذه العادة السادية توقعت ألا يتراجع الرجل .
" ورده قايين "
برغم انها كانت تعلم تماما انها تواجه الموت ...الا انها احست بالدهشة عندما استطاعت في النهاية ان تسيطر على قوة الرجل بعد صراع كبير .
ومن خلال الموقف الذي عاشته مع هذا الصراع ...صراع البطل الذي يواجه أمرا لا يمكن تجنبه - استرجعت في مخيلتها كل ذكرياتها مع افراد اسرتها , وتصورت رد كل واحد منهم على حدة عندما يعلم نبأ موتها . شقيقها هيو سوف يعاني من الشعور بالذنب طوال حياته فهو المسؤول عما حدث لها بصورة غير مباشرة ...وأمها ....لن تفيق من الصدمة , وأخذت توني تفكر وهي مرهقة كيف توسلت اليها امها لئلا تسافر الى الخارج وخاصة الى الشرق , لقد حذرتها من الأخطار الكبيرة هناك , ولكن توني ضحكت وقالت لها :
"ما هذا السخف يا امي ... " وهناك بام شقيقة توني الأرملة وأطفالها . يالهم من شياطين .. ولكن توني تحبهم كثيرا ..ديفيد في التاسعة وروبي في الثامنة ولوسي في السابعة وقد فقدوا أباهم منذ أكثر من عامين , وأخيرا كان هناك والد توني الذي تحبه كثيرا , كانت رسالته الأخيرة تثير الآسى .....أخبرها ان تجارته الرابحة تواجه الإفلاس بعد فتح المتجر الكبير الذي يبيع كل شئ على الناحية المقابلة من الشارع . كان الحل الوحيد لخلاصه من هذه الأزمة هو الشراء بكميات ضخمة وهذا يحتاج الى رأس مال لا يقل عن خمسة الاف جنيه .
الا ان تتابع ذكرياتها عن افراد اسرتها توقف فجأة عندما تمكن الرجل من إخراج الخنجر من غمده وإشهاره في وجهها ... وتمكنت توني وهي تقبض بقوة على رسغ يده من إبعاده عن قلبها , لكن قوتها تداعت بسرعة وانتابتها مشاعر اليأس بعدما احست انها لن تستطيع التغلب على رجل مشحون بالنزعة الى القتل.
وشعرت بدوار وكادت تسقط مغشيا عليها .
وفجأ' سمعت أصواتا على الجانب الآخر من الباب , واستطاعت في محاولة يائسة أخيرة ان تدفع الرجل بقوة الى الخلف فسقط على الأريكة .
"أبي .....أبي....افتح الباب ودعنا ندخل"
كانت هذه الكلمات باليونانية ولكن توني فهمتها بالطبع .
ثم سمعت صوتا يقول بالأنكليزية هذه المرة وفي نبرة قوية آمرة :
"جدي....أفتح الباب."
ولم ينتظر المتحدث , وانفتح الباب بقوة محدثا صوتا مفزعا بعدما دفعه بقطعة من الخشب وتم انتزاع الخنجر من الرجل العجوز , الا ان احدا من الوافدين الجدد لم يلحظ توني التي ارتمت على أقرب كرسي لا تستطيع حراكا.
"الحمدلله وصلنا في الوقت المناسب"
وانفجرت المرأة باكية وهي تحتضن بذراعيها والدها الكهل " الحمدلله أننا حضرنا في الوقت المناسب "
" لن نسمح لك بأ تعرض نفسك لمشاكل أخرى"
واهتز رأس توني في عصبية ...كان كل اهتمام المرأة منصبا على والدها , ولم تكن تهتم إطلاقا لهدفه ...لضحيته.
وقال الرجل الكهل وهو يتخلص من ذراعي ابنته:
"داروس....كيف جئت الى هنا ....ولماذا تتدخلين؟"
كان صوت الرجل هائجا ومرتعشا , وايقنت توني أكثر من أي وقت مضى أنه مختل عقليا , ترى هل يعرف أقرباؤه ذلك , لاشك يعرفون ...
"أبلغتني والدتي بما تعتزمه .... وحضرت على الفور ...ولكن أحدا منا لم يكن يدرك ما يحدث حتى تقابلنا مع لويس في الخارج وعرفنا منه ان السيارة الواقفة لا بد انها للفتاة التي تنوي قتلها "
وقال الرجل في حنق:
"لويس..."
"عرف انك اكتشفت مكان عمل الشقيقة ..... وكان هناك همس بأنك تنوي الأنتقام , لذلك إتصل فورا بأمي .."
"لويس ....صديقي الذي اثق فيه!"
"انه يهتم بمصلحتك جدا مثلنا , أراد ان يبعدك عن المشاكل "
كان الصوت واضحا مقتضبا ولكنه يتسم بالصرامة . كان الشاب يبدو وكأنه يتحدث الى طفل متمرد واستطرد قائلا:
"كما تقول والدتي لن نتركك تعرض نفسك للخطر , كانت وفاة عمتي بدون عمد نتيجة لحادثة , ويجب ان تنسى كل شئ عن الأنتقام "
كان الحديث باليونانية , وعرفت توني انهم يسلمون تماما بأنها لا تفهم لغتهم .
"لم يكن من حقك ان تبلغي داروس ...."
ولم يكن الرجل العجوز ينصت الى حديث حفيده , كان صوته يرتعش في تصميم وهويضيف .
"لا بد ان اقتل الفتاة , اغتال شقيقها شقيقتي . ويجب ان تسيل الدماء"
ورد داروس في نبرة هادئة متسامحة .
"لم يكن الموت اغتيالا , نزلت عمتي بالصدفة الى الطريق . ولم يكن امام الشاب فرصة لانقاذها "
وعند سماع هذا رفعت توني رأسها وتفرست في ملامح الشاب القاتمة . كان التحفظ والكبرياء الواضحة تشير الى انه انكليزي , لا شك في هذا . ولكن نحوله الشديد والخطوط القاسية على وجهه التي تعطي انطباعا بأنه قد من حجر .... كل هذا يشير الى الصلابة والغطرسة والتزمت مما لا يتسم به الا من ينحدر من سلالة يونانية وتصورت توني ان اباه انكليزي . وظلت جالسة في مقعدها والجميع يتجاهلون وجودها .
وأعاد داروس الخنجر الى غمده , وقال الرجل الكهل :
" لا أهتم بالتفاصيل ما تسمونه حادثة , هناك شئ بداخلي يقول يجب ان اقتل هذه الفتاة "
كانت عيناه أشبه بجمرتين متوهجتين وكان تسلط فكرة القتل عليه يدفعه الى حافة الجنون .
وسأله داروس :
"هل تدرك انه سيزج بك في السجن ؟"
وردت امه :
"كلا يا داروس ..... لا تقل ذلك..... ان هذا هو السبب في وجودنا هنا الآن ...لكي نمنع والدي من مواجهة المشاكل مع البوليس "
وقال ابوها وهو يتجاهل كل ذلك :
"سوف يكون حكما مخففا ...شهران سجن على الأكثر"
ورد حفيده بصوت اختفى منه الصبر والرقة:
"لا تكن سخيفا , الأغتيال أخذا بالثأر وما تنوي عمله لا يمكن التساهل إزاءهما. أصبحت أحكام السجن أكثر قسوة , ويمكن ان تموت في السجن "
"انك لا تستطيع ان تخيفني , القتل من اجل الأنتقام لا يعتبر جريمة "
ولأول مرة منذ ظهور الآخرين -نظر الرجل الكهل الى توني وقال:
"سوف اقتلها ....أقسمت ان افعل ذلك , وسوف انفذ ما تعهدت به "
وشعرت توني برجفة , كان الرجل شيطانا , وانتقلت نظرتها الى حفيده , لم يكن يشبهه في شئ الا طول القامة , كان الرجل المسن فلاحا . عاش في قرية حيث يؤمن الناس بالثأر .
أما داروس الحفيد فكان على العكس شابا متعلما مثقفا ووالدته ايضا كانت مختلفة جدا هي الآخرى عن والدها . كان واضحا ان الحظ أسعدها فتركت قريتها وتزوجت رجلا انكليزيا .
ونظر داروس الى توني , وفكرت ... قد يكون هو ايضا بلا رحمة , ان وجهه لايحمل أي تعبير عن الأهتمام بالتجربة الصعبة التي مرت بها وكما فعلت امه كان اهتمامه الأول منصبا على الرجل الكهل ومشكلة إبعاده عن السجن , وتحدثت توني في نهاية الأمر وقالت بنبرة حادة :
"أشكركما جدا لانقاذي من هذا الرجل المجنون"
ونظر داروس اليها في شئ من الغطرسة وقال ببرود:
"ربما تريدين مغادرة المكان , ان لك الحرية في ذلك عندما ترغبين "
وذهلت توني وحدثت نفسها قائلة بدون اعتذار وبدون كلمة عطف واحدة على ما عانت منه . يالها من اسرة مضيفة.
وردت عليه قائلة :
"أشكرك سأكون أكثر من سعيدة عندما أجد نفسي في الخارج ,في الهواء الطلق "
لكنها بعدما نهضت واقفة - جلست فجأة على الفور مرة أخرى كانت ساقاها لا تقويان على حملها , وأبدى داروس ووالدته الدهشة إزاء هذا التصرف.
ولكن احدا منهما لم يستفسر عن السبب الذي جعلها تغير رأيها .
" ورده قايين "
وصرخ الرجل الكهل وهو ينظر الى حفيده في غضب :
"إنني اعتزم قتلها , ولن استريح حتى اقوم بواجبي "
"أبي ....يجب ألا تفعل ذلك ....أرجو ان تهدأ وحاول ان تتعقل . أوضح لك داروس يا عزيزي ان موت شقيقتك لا علاقة له بأخذ الثأر"
"ان احدا منكما لا يستطيع منعي من ذلك , أضعتما وقتكما بالحضور الى هنا "
وأمعنت توني النظر في وجهه مرة أخرى . وشعرت بشئ من التقزز رغما عنها عندما أحست بالتصميم باديا عليه . وكان داروس قلقا ايضا , وفجأة قال :
"آنسة فريمان , اسم شقيقك فريمان , اذكر ذلك . آنسة فريمان , يجب ان تغادري كريت فورا"
وصعقت توني لهذه الأوامر الجافة , وحدقت فيه واستمر داروس في حديثه :
"انك لاتفهمين اليونانية , والا لكنت قدرت خطورة الموقف , أصيب جدي باضطراب شديد بسبب وفاة شقيقته , ومن الواضح انه لن يتساهل ابدا إزاء هذه المسألة , ولذلك من الملح جدا ان تتركي هذه الجزيرة في الحال "
وردت توني وهي في حالة اهتياج شديد , متجاهلة ملاحظته عن عدم فهمها لليونانية :
"أخشى الا يكون ذلك ممكنا , لقد جددت اخيرا تصريح عملي هنا , ووقعت عقدا جديدا لمدة ستة أشهر مع صاحب العمل "
"من هو صاحب العمل ؟"
وعندما أبلغته قال :
"اتركي كل شئ لي .... وسوف أحصل على إستغناء منه في الصباح ويمكنك مغادرة الجزيرة مساء اليوم ...لا أعرف إن كانت هناك طائرة أم لا , ولكن هناك الكثير من القوارب العابرة الى البر "
وكاد الحنق ان يخنقها عندما رفعت رأسها ونظرت اليه قائلة بالغطرسة التي بدت على وجهه :
"هل تتوقع مني فعلا ان اترك وظيفتي , وان اغادر الجزيرة خلال ساعات ؟"
ورد عليها قائلا وقد نفد صبره :
"لو انك فهمت ما قاله جدي لما ترددت في ذلك , من اجل سلامتك انت انسة فريمان - يجب ان تغادري كريت "
وقالت في هدوء :
" من اجل سلامتي يجب ان اتوجه الى الشرطة"
وساد المكان سكون مطبق عقب هذا التهديد , وهو تهديد لم تكن توني لتعلنه في مثل هذه الظروف بالذات لو ان داروس ووالدته كانا اقل انانية واكثر ميلا للإعتذار .
وأخيرا قال داروس في حزم :
" نصيحتي لك هي ان تغادري الجزيرة "
"لا يناسبني أبدا ان اترك الجزيرة , ان اتخلى عن وظيفتي واهرب بسبب تهديدات هذا الرجل "
"هل ترفضين ذلك تماما ؟"
" بكل تأكيد ارفض .... ويجب ان يسجن هذا الرجل "
ولم تكن توني تقصد ما قالته لأن الرجل كان مسنا جدا ولن يعيش طويلا , بالأضافة الى ذلك- برغم ان الأخذ بالثأر يعتبر في نظر الغرب تصرفا وحشيا , كما يعتبر القتل عملا لا مبرر له - الا انه في نظر الآخرين هنا يعتبر طريقة مقبولة للحياة وهو عادة ثابتة منذ فترة طويلة وربما يرجع تاريخها الى تقاليد الزواج الغريبة التي كانت قائمة في القرى النائية المتخلفة ....إن هذا الرجل يؤمن بقوة بالأخذ بالثار, الا انه من الواضح ان عقله متأثر بوفاة شقيقته , ولذلك فأنه يؤمن تماما ان واجبه يحتم عليه تنفيذ الإنتقام ...
وتدخلت المرأة قائلة في يأس :
"انسة فريمان ...هل تغادرين الجزيرة إذا دفعنا لك تعويضا ؟"
"كلا!"
قالتها رغم انها بدأت تقتنع قليلا بضرورة مغادرتها الجزيرة , الا انها لم تستطع مقاومة رغبتها في إثارة قلق هؤلاء الناس لمجرد معاقبتهم على تصرفاتهم الجافة إزاءها , واستطردت تقول :
" سأكون آمنة تماما هنا عندما أتوجه الى الشرطة "
والتقت عينا الأم والأبن في نظرة سريعة , وكان الرجل الكهل يستند الى المائدة , شاحب الوجه وأنفاسه متقطعة , ومع ذلك كان قادرا على ان يقول بالأنكليزية :
" الشرطة لا تستطيع حراستك طوال الوقت , وسوف أتربص بك دائما . هذا ما يحدث عادة في القرية عندما يعتزم شخص قتل آخر , إنه يختيئ في منعطف , او بين الأشجار وعندما تأتيه الفرصة يوجه ضربته "
ونظر داروس في ضيق الى جده وقال :
"دعك من هذا السخف , الأخذ بالثأر عمل غير متحضر "
"ربما كان ذلك صحيحا في رأيك يا داروس , ولكنني لست من جيلك انني اتبع العادة كما اعرفها , وكما تتصل بإحساس الواجب "
وبرغم ان صوته بدأ يهدأ لكنه كان يعبّر عن تصميمه على تنفيذ ما يعتقد بشدة.
وظهرت علامات العبوس على وجه داروس , وبدأت والدته متوترة جدا وهي تقول:
"انه يعني ما يقول .... يا داروس .. ما الذي تستطيع فعله..؟"
واستدارت الى توني دون ان تنتظر ردا منه وقالت لها :
"انسة فريمان , ارجو ان تحددي الثمن الذي تريدينه وسوف ندفعه ...أي ثمن.."
وأحست توني بالمتعة عندما رأت الحفيد ووالدته يعانيان من حالة قلق شديدة ومع ذلك قررت ان تعيد الهدوء الى المرأة فقالت :
"سأعود الى انكلترا ... وعليكم ان تدفعوا ...."
وسكتت عندما رأت داروس يهز رأسه بشدة وقد بدا بريق العناد الشديد في عينيه وقال مقاطعا :
"لن ندفع شيئا ... لن نسمح لأنفسنا بأن نستغل بسبب هذه العقيدة الغبية التي يتمسك بها جدي , ولم يكن ينبغي لوالدتي ان تعرض عليك نقودا"
ولم تعد توني مستعدة للتنازل عن أي شئ , ومرة اخرى هددت بالذهاب الى الشرطة وقالت في حدة :
"لم يعد امامنا الا الشرطة ..... او النقود....."
وقال لها في احتقار شديد :
" انت تستغلين الموقف عن عمد "
وتدخلت الأم وقالت باليونانية :
"داروس ... لا تجادل الفتاة , اعطها ما تريده"
"لن استسلم للأبتزاز , جدي ماذا بك ؟"
كان الرجل الكهل يضع يده على رأسه وبدا عليه الأرهاق نفسه الذي بدا على توني نتيجة الصراع بينهما . وقال الرجل وهو يغادر الغرفة :
"انا ذاهب لأستريح ..."
ثم قالت الوالدة :
"ادفع للفتاة يا داروس , ولننته من هذه المسألة تماما "
"لن اسمح لأي امرأة ان تطالبني بشئ , كنت غير حكيمة عندما ذكرت النقود"
"ولكن جدك يا داروس يعني ما يقول "
أومأ ابنها برأسه آليا وبدا عابسا وهو يفكر
"لا بد ان تكون هناك وسيلة لأنقاذه من نفسه "
"ليس امامك الا ان توافق على ان تدفع للفتاة "
ورد في ضيق قائلا :
"ذلك ضد مبادئي ولا بد ان تكون هناك طريقة اخرى "
ثم نظر الى توني وقال بحدة :
"يجب ان ترحلي ...."
"ولكنني لست راحلة ...."
وتنهد في حنق وهو يقول لوالدته :
"من الواضح انها لاتريد التعاون بدون ان ندفع لها "
"عليك ان تتجاوز عن مبادئك "
وضاقت عيناه الداكنتان وقال مستنكرا :
"وهل تتوقعين ان اخضع لمطالبها !؟"
كان صوته جادا وهز رأسه وهو يتكلم , ولكن عندما رمقته توني بنظرة جانبية لاحظت توتر وجهه , كان يحدق في الفضاء ويعبس من أفكاره واستمرت توني تراقبه وتساءلت .. ترى ماهي السمات التي ورثها عن جده الكهل المتعطش لدماء ؟ إنه لم يرث شهوة القتل , لكن قسوته كانت واضحة . وبعد ان ظل فترة مستغرقا في التفكير قال أخيرا في صوت مكبوت :
"كم تريدين آنسة فريمان؟"
وتنهدت أمه في ارتياح كأنها ازاحت عن صدرها عبئا ثقيلا .
وأوشكت توني ان ترد عليه قائلة انها لاتريد سوى أجرة سفرها فقط ولكن شيطانا تقمصها فجأة فرفعت رأسها وأجابت في تحد :
"لا أريد شيئا ....انا ذاهبة الى الشرطة .."
ونظر داروس في عبوس اليها :
"ولكنك كنت تنوين طلب المال "
" غيرت رايي ..فما الذي يدعوني الى التخلي عن وظيفتي ؟
وضاقت عيناه على نحو خطير , وتساءلت ترى ما الذي يريد ان يفعله . وقال :
" وهل هذا هو رأيك الأخير ؟ هل انت مصممة على التوجه الى الشرطة؟
وترددت توني بعض الشئ وساءلت نفسها : ما الذي يجعلها تتمادى الى هذا الحد ؟ وكيف تستطيع الآن ان تتراجع ؟
وعندما لمحت ومضة الأمل على وجهه بسبب تأخرها في الرد قالت بسرعة :
"انني مصممة تماما "
قالت ذلك وهي تفكر هؤلاء السفلة , ماذا يتصورونها ؟ ان رأي رجل مثل داروس لا يمكن ان يؤثر عليها إطلاقا .
وانفجرت الأم باكية وهي تقول :
"يا عزيزي انها غلطتك . انت عقدت الأمور كانت مستعدة لمناقشة الدفع . ليس هناك الآن شئ نستطيع فعله "
وصمتت فجأة عندما دخل والدها الغرفة . كانت عيناه تحدقان في تهديد . وقال :
"فكرت الآن في شئ . ان ذلك القاتل له عم يعيش في جزيرة كريت . اكتشفت ذلك وانا اقوم بتحرياتي عنها ! وهكذا فانها اذا توجهت الى انكلترا سوف اقتل عمها ....."
واستدار الى داروس وهو يضحك واستطرد قائلا :
" نعم سوف اقتله , او اقتل احد ابنائه , لديه ابنة جميلة جدا هذا هو ما سمعته "
وانحنى وهو ينظر ساخرا الى توني قائلا :
" هذا صحيح أليس كذلك ؟ ان ابنته الصغرى جميلة جدا !"
وقالت توني وقد بدأ قلبها يخفق بشدة :
" لا تستطيع ان تزج عمي في مثل هذه المسألة "
لكن الرجل المسن اختفى من الغرفة , وعندما صمتت توني كان الصوت الوحيد الظاهر في الغرفة هو صوت بكاء والدة داروس .
واستغرق كل من داروس وتوني في التفكير وتساءلت توني ما الذي يمكن ان تفعله الآن ؟
كانت نيتها في بادئ الأمر ان تتعاون معهم , وان تعود الى بلدها , ولكن هذا التطور الجديد عقّد الموقف بصورة خطيرة . فلو بقيت هنا تتعرض حياتها للخطر , واذا رحلت من الممكن ان يتعرض عمها او احد افراد اسرته للموت .
" ورده قايين "
وكانت المرأة هي التي استأنفت الحديث أولا بعد ان رفعت رأسها وتطلعت الى داروس وتوني .....ثم وجهت كلامها الى ابنها :
" هل تعتقد انها يمكن ان تتزوجك ؟"
"ماذا ؟
لم تكن كلمة الأستغراب هذه صادرة من توني كما هو متوقع . بل انطلقت من داروس الذي بدا كأنه فقد عقله وحدق في وجه والدته وقد ارتسمت عليه علامات الجنون كجده . ونهضت توني لكنها استطاعت ان تسيطر على دهشتها في حين ان داروس كشف عن مشاعره.
واستطردت الأم قائلة بسرعة :
"كما تعرف , انه من المحظور الثأر من الأقرباء .. واذا تزوجتها فسوف ترتبط بصلات القرابة وبالتالي لا يستطيع جدك ان يمس احدا . لن يستطيع ذلك طبقا لقوانين القرية التي ينصاع اليها تماما . انا اعرف انك مستنكر ذلك يا داروس ولكن الا تستحمل الزواج منها ؟
وظل داروس على ذهوله لا يستطيع إلا ان يحملق في وجه امه . كان واضحا انه يتصور انها فقدت عقلها .
اما توني فكان يبدو عليها انها فهمت شيئا ولكنها استطاعت مرة اخرى ان تتماسك بدون ان تبدو عليها علامات الدهشة . ولكنها كانت تحس بالحنق من جرأة هذه المرأة .
توني لم تقابل ابدا اسرة على هذا النحو منذ وصلت الى اليونان . في بداية الأمر كاد احد افراد الأسرة ان يقتلها . وبعد وصول المرأة وابنها المتغطرس لم يحاول أي منهما ان يسألها عن حالتها او يقول شيئا يهدئ اعصابها . ليس هذا فقط بل امروها بمغادرة الجزيرة واتهمت بالأبتزاز ولم يبق الآن الاّ ان تتزوج هذا الشاب الذي لا يطاق - اذا ما وافق على اقتراح امه - في سبيل انقاذ الرجل المسن المجنون من نفسه . لم يحدث في حياتها ان احست برغبة عارمة في الأنتقام قبل الآن .
ورد داروس في ذهول :
"أتزوجها ؟ هل جننت ؟"
وأمام هذا الأحتقار والأشمئزاز واما بلادته لأنه يفترض انها تجهل ما يدور حولها , نفد صبر توني وكادت تنفجر ساخطة .... الا ان الأم كانت اسرع منها في الرد على داروس :
"انه الحل الوحيد ..... وربما بالطبع لا تقبل الزواج منك لمجرد انقاذ عمها . ولكنني اعتقد انها لو عرفت ما لديك من ثروة ؟"
"هذه الفكرة غير واردة اطلاقا . لاشك انك فقدت عقلك وانت تقترحين ذلك "
وبحركة صغيرة تدل على اليأس ابتعدت المرأة عن ابنها ورأت توني الذعر والخوف في عينيها . كانت تحب اباها بالتأكيد ولا شك ان دخوله السجن سيحطم قلبها . وعادت المرأة تلح مرة اخرى وتقول :
"انك لو تزوجتها سيكون الأمر مؤقتا . فمن الواضح انك لا تريدها بهذه الطريقة , وهكذا فإنه فور حدوث أي شئ لجدك تقوم بطردها وإلغاء الزواج . لم اكن اطلب منك ان تتزوجها لو كان هذا الزواج سيؤثر عليك طوال حياتك , ولكن الأمر لن يطول "
ولم يعقب داروس بكلمة على ما قالته الأم التي استطردت :
"هناك ايضا مشكلة العار .... هل فكرت في ذلك ..ان الأخذ بالثأر يعتبر اجراء غير مشروع في نظر المثقفين اليونانيين , وانت رجل مرموق بين رفاقك , الا تفكر في اقتراحي من اجل مصلحتنا جميعا . هناك ايضا شقيقاتك .... تذكر هذا "
وكادت توني تنفجر غيضا عندما استمعت الى هذا الحديث . انها تقول له فكر في الأقتراح ... وكأن هذا الأبن ليس عليه الا ان يرفع اصبعه فتهرع توني اليه ....أية تضحية !!
ورد الأبن قائلا :
" هذه المسألة ليست موضع تفكير بتاتا "
"جوليا في الجامعة ومارغريتا ...لزوجها مكانته .... انه رئيس القرية وينبغي عليك الا تجعلهم يعانون من هذه الفضيحة "
وبدت عظام أصابع توني تتقلص وشعرت انها ستنفجر بالتأكيد اذا لم تغادر هذا البيت فورا . ومع ذلك لم تحاول الأنصراف . كان فضولها كبيرا وهي ترقب كيف يعالجان المشكلة ...وقال داروس :
"هذا مستحيل .... تعرفين رأيي في المرأة الأنكليزية "
واشتعل غضب توني وهي تسمع داروس يقول :
" الفتيات الأنكليزيات لا يتمتعن بالجاذبية ومغرورات . انهن كالمرتزقة الباحثات عن الذهب . يوقعن ضحاياهن في الشباك تحت ستار عجزهن وضعفهن , ولكنهن فيما بعد يفرضن قوة تحررهن على ازواجهن .... واخيرا يتحولن الى شخصيات ضعيفة مجردة حتى من احترام النفس .... كلا اشكرك .. , عندما يحين زواجي سأختار يونانية تعرف حدودها كأمرأة!"
اتفهم كراهيتك يا داروس , ولكن كما قلت لك , هذا هو الحل الوحيد , انا انبذ تلك الفكرة تماما , ولكن التضحية من جانبك يمكن ان تنقذ جدك من السجن , ولأنه اذا دخل السجن ربما يموت هناك , انا متأكدة ان العقوبة لن تكون مخففة رغم كبر سنه .."
وشعرت توني انه يواجه صراعا شديدا , كانت النظرات التي رمقها بها لا تقل عداء عن النظرات التي تلقتها من جده .
كان داروس يحدث صريرا بأسنانه وهو يفكر فيما قالته والدته . ان هذه الفتاة غارقة في صلف المرأة الأنكليزية وربما لا تفكر في الزواج حتى من اجل الأموال , وصرح برأيه هذا لوالدته فشهقت المرأة وفعلت توني الشئ نفسه ولكن في صمت . كان وجهها يبدو عليه الغضب وعدم التصديق .
واخذ داروس يقلب الأمر بينه وبين نفسه , انه مجرد ترتيب مؤقت . جدي يمكنه ان يموت خلال أسابيع , فهو يزيد عن الثمانين .
وانبرت الأم فقالت في حماس بدون ان تنتظر الرد :
"اسألها , انا متأكدة انها سوف تقبل , بالرغم انها اظهرت عنادها ..ان ذكر الأموال سوف يقنعها ... كنت تقول دائما ان النساء الأنكليزيات تفعلن أي شئ مقابل المال , ولذلك لا اعرف لماذا انت متشكك في موافقتها .اذكر لها انك من اصحاب السفن وسوف تستلم للزواج منك ....واذا ترددت بعض الشئ اذكر لها المنزل الذي تملكه او المقر الصيفي في جزيرة رودس ..عندئذ لن تستطيع المقاومة , وسوف يكون عليك تعويضها فيما بعد عندما تقرر انهاء الزواج , وربما تطالب بمبلغ كبير ولكن الأمر يستحق التضحية "
لم تكن توني قد شعرت من قبل بمثل هذا الأحساس بالغيظ ولكنها استسلمت لشعور داخلي بأن من مصلحتها ان تبقى صامتة . واخيرا رد داروس على والدته :
"ربما تكونين على صواب . ان معرفتها بالثروة قد تثير بريقا في عينيها "
وعندما تطلعت عيناه الداكنتان الى توني باحتقار تساءلت ترى هل يتكلم عن تجربة سابقة ؟ هل حدث يوما ان فتاة انكليزية خذلته ؟ يبدو ان هذا ما حدث ومع ذلك حتى اذا كان يعاني من الأحباط او الأهانة , وهذا امر بهيد الأحتمال , شعرت توني انه لاشئ يمكن ان يؤثر على رجل بلا قلب ولا مشاعر ... فإن هذا لا يبرر حكمه بأن الفتيات الأنكليزيات سواء .. وعادت الأم تغريه قائلة:
"الأمر لن يطول وسوف توضح لها الموقف حتى لا تتوقع منك ان تخصص لها وقتك واهتمامك وما عليك الا ان تتناول معها وجبات العشاء فقط حتى يبدو الأمر طبيعيا في وجود الخدم , وفيما عدا ذلك باستطاعتك ان تنسى حتى مجرد وجودها ...."
وصمتت المرأة برهة ثم قالت :
"هل ستسألها الآن ؟ " ورفع حاجبيه السوادوين وقال :
"كلا ليس في هذه الحظة بالذات , اعطني بعض الوقت لأتعود على الفكرة"🦋 🦋 🦋 🦋
أنت تقرأ
🦋الثأر 🦋🌿ان هامبسون 🌿روايات عبير القديمه
Romanceالعنوان الأصلي:South of Mandraki الثأر عادة متأصلة في كثير من امكنة العالم, وللثأر تقاليد لا يفهمها سوى الذين ولدوا وعاشوا في المجتمعات المغلقة التي تعطي اهمية كبيرة للتقاليد مهما تنافت مع التطور والمنطق . وتوني التي وجدت نفسها في جزيرة كريت ذات يوم...