على نافذة الشرفة، يقف وبين أنامله كوب قهوةٍ سوداء وباليد الأخرى يحمل ملفًا، يتأمل زرقة السماء بأعين تراخت أهدابها كثيرًا وتغيّر منظورها للحياة.
طُرق الباب بخفّةٍ تلاه كيانها مُستندةً على العُكاز من جهةٍ وتوأمها الذي لا يكفّ عن الابتسام من جهةٍ أُخرى بعدما أذن لهم بالدخول.
ابتسم بلطفٍ وأشار لهم بالجلوس، ثمّ استطرد بعد خلعه نظارته عن عينيه يُدلك مكانها بتعبٍ مُتنهدًا بعمقٍ ريثما يرفع بين أنامله الملف ويوجهه لها:
-هذه العملية لم تكن لتنجح حتى ولو قمتي بها في الخارج، فرنسا، بريطانيا، أمريكا أو حتى الهند، لكننا نجحنا بها هُنا، رغم المُعدات القليلة. واحدٌ وَعشرون عمليةً أُلغيت في ذلك اليوم عدى عمليتكِ أنتِ بسبب عطلٍ في المصعد الذي أُصلح لأجلك فقط.. أكان القدر بصفكِ لهذه الدرجة أم ماذا؟
صمت لبرهةٍ قبل أن يُردف بغير تصديق:
-أنتِ معجزة، أنتِ لا تعلمين حجم النجاح الذي سأصله بسببك، أيّ شيءٍ فعلته حتى يُكرمك الله بهذا، ما العمل الذي صنعته، أخبريني وأقسم أن أعطيك ما تُردين..
-سأخبرك، لكن بشرط.
ردّت فعقد حاجبيه بحيرةٍ تبعه هزّه لرأسه بانصياعٍ متوقعًا شرطها:
-أن تُبعد هذا التجهم عن وجهك، أتعلم اللقب الذي يُطلقونه عليك طاقم المشفى؟ "الطبيب المغرور.". لا أحد يُنكر خبرتك، تفوقك في عملك، جهدك الذي تبذله بصدقٍ وأنك مطلوبٌ دوليًّا، لكنك للأسف شوّهت هبة الله بغرورك وتبجحك بعلمك، جعلت عطايا الله لك سلاحًا تقتل به المرضى دون أن تُدرك، لماذا؟ لتُرضي غرور تفسك.
أخذت نفسًا ثمّ أكملت:
-أيها الطبيب، أتعلم عدد أولئك الذين ماتوا بسبب كلماتك وَاليأس الذي أمطرتهم به في حين كان من المفترض أن تشحذ عزمهم وَتُطمأنهم بقوله تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ كُنت إحدى موتاك أيضًا لولا يقيني بقدرة الله. كان لكلماتك أن تُغيّر قدرًا، أن تنقذ روحًا وَأن تصنع معجزةً بإذن الله ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..﴾
فأخفض المعنيّ رأسه بخزيٍ وَهزّت كلماتها شيئًا عميقًا بداخله، هو الذي لطالما آمن بأنه يُنقذ أرواحًا وجد نفسه اليوم سببًا لموتها..
-لم أفعل شيئًا.
استرسلت من اللامكان تُجيبه على سؤاله الذي ألقاه آنفًا وَقد حرّكت كتفيها بعفويّةٍ ليقطب حاجبيه بذهولٍ ثمّ أضافت بعد ابتسامةٍ عريضة:
-إنها دعوة عمتي.
لازال حديثها يبعث الحيرة فيه، فأكملت ناظرةً للسماء عبر النافذة:
-"الله يحاجي -يدافع- عليكِ."، لطالما كانت تدعو لي بهذا الدعاء، حتى عندما كانت في أيامها الأخيرة وسلب الموت صوتها كانت تُشير للسماء فأفهم ما تعنيه.
-وقد استجاب الله.
هسهس بعجزٍ أمام قدرة الله، ينظر لجثمانها يستقيم لترحل، فناداها مخاطبًا بعدما أوشكت على الخروج:
-".467"، لقد كانت تعني "أمل." وقد كُنتِ كما اسمكِ تمامًا.
حديثه جعلها تخفض بصرها بابتسامةٍ عذبةٍ قبل أن ترفعه وَتقرأ على مسامعه آيةً واحدةً حوت أمل العالم أجمع:
-﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾
فأغلق جفنيه على وقع الكلمات مُتمنيًا لو يعود به الزمن للوراء قليلًا حتى يتلو ذات الآية على جميع مرضاه..
-أبي، من تلك الفتاة؟
سأل طفلٌ بأعوامه السبعة والده الذي حمله لحجره بينما يقبع الملف بيُسراه، يُجيبه قارئًا محتواه:
-إنها الفتاة التي علّمت والدك درسًا لن ينساه.. "الفتاة المُعجزة."
إلى الطبيب الذي قال ليّ يومًا أنني لن أستطبع الحراك مجددًا وها أنا ذا أقف بفضل الله لأكون أعظم إنجازاته.. لقد كان لطف الله ورحمته، ثمّ تلك الدعوات مع يقيني بالله أقوى من مجرد أرقامٍ وعلمٍ تتباهى به لتحدد به مصير روح، كانت قدرة الله فوق كلّ شيء.
_____﴿ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾🤍
أُعيد نشرها في:
الواحد والعشرين من نوفمبر | تشرين الثاني 2020