6-خذني معك

423 10 0
                                    


أستيقظت ديليا في الليل عل صوت الرعد وعلى آلام فظيعة في معدتها , وكان أدموند يضع رأسه على صدرها وهو مستغرق في نوم عميق وعلى الرغم من آلامها , نظرت اليه ديليا في الظلام وهي تبتسم , فقد كان لقاؤهما ممتعا , برغم ضيق الفراش , وعجبت دليا من نفسيهما , كيف أن هذا اللقاء لم يتم من أول ليلة قضتها مع أدموند في بوستو أورلاندو , ولكنها تذكرت قوله لها: يلزمنا الوقت لننسى ونغفر , وأدركت في تلك اللحظة أنه على حق , وأن الزمن كفيل بأصلاح ما أفسده بيتر الذي كانا يثقان به , ولكنه , وهو الصديق المخلص , كان يشعر بالغيرة منهما.
وأضاء الكوخ ضوء البرق الذي نفذ من فتحة الدخان الموجودة بالسقف ورعدت السماء, وشعرت ديليا من جديد بألم يكاد يمزق معدتها وأصابها الغثيان , فهمست قائلة لأدموند:
" يجب أن أقوم".
ولكن أدموند لم يسمعها , وكان مستغرقا تماما في النوم , فسحبت ذراعها برفق من تحت كتفه , وهبطت مسرعة من الفراش , وأندفعت خارج الكوخ بدون أن تتمكن من وضع أي ثياب عليها , وجرت مسرعة داخل الغابة لتستند الى أحدى الأشجار وتفرغ ما في جوفها , وأخذت ديليا ترتجف وهي لا تكاد تقوى على الوقوف.
وما كادت تتمالك نفسها قليلا , وتتجه للعودة الى الكوخ , حتى شعرت بالغثيان من جديد , وأستمرت على هذه الحالة عدة مرات شعرت بعدها بأرهاق شديد , ولم تكن تقوى حتى على السير , ولكنها بذلت كل ما تبقى لها من جهد لتزحف في بطء شديد عائدة الى الكوخ , وكانت الأمطار قد بدأت في السقوط بغزارة.
وأخيرا وصلت الى الكوخ وقد أبتل شعرها وجسدها , ووصلت الى حيث يوجد الفراش , وأستندت الى حافته وهي لا تكاد تقوى على الوقوف على قدميها.
وشعر أدموند بها فهبط من الفراش مسرعا , ونظر اليها بخوف وقد وقفت ترتجف والمياه تتساقط من جسدها.
وأمسك بها وهي تترنح , وسألها بقلق:
" ماذا حدث؟ وأين كنت؟".
فأجابته وهي لا تكاد تقوى على الحديث:
" أشعر بتعب شديد , وأعتقد أنني أصبت بالدوسنتاريا , أشعر بالغثيان وقد أفرغت ما في جوفي".
وفاجأتها موجة جديدة من الألم , فتلوت وهي تضغط على معدتها بقوة , فجذب أدموند الغطاء من داخل الفراش , ولفه حول جسدها بأحكام , ثم حملها ووضعها فوق الفراش , وصعد حيث أستلقى الى جوارها وقد ضمها اليه بقوة في محاولة لتدفئتها , وهو يسألها:
" لقد كنت تشعرين بالتعب طوال اليوم , أليس هذا صحيحا؟".
فأجابت بصوت ضعيف:
" نعم , أستيقظت صباحا وأنا أشعر بصداع شديد وغثيان ".
فسألها:
" أذا , لماذا وافقت على الحضور معنا في هذه الرحلة؟".
فقالت وهي ما زالت ترتجف:
" لأنني , لأنني أردت أن.. أن أكون معك , وأن أذهب معك الى أي مكان تذهب اليه , كانت هذه هي أول مرة تسألني فيها الذهاب معك , ولم يكن بأستطاعتي أن أرفض وأضيّع فرصة وجودي معك , لمجرد أنني أشعر بالصداع".
قال بغضب:
" ما كان عليك الحضور , وأنت تشعرين بالتعب , لقد أخطأت لأنني سمحت لك بالحضور , لقد طلبت منك المجيء فقط لأنني أذا لم أفعل ذلك , فأن كارلو كان سيفعله , وقد حاولت جعلك ترفضين بأن تظاهرت بعدم الأهتمام بحضورك معنا , كنت أخشى عليك , وكنت أعرف أنه سيحدث شيء لك".
" ولكن لو لم أحضر معك , لما تمكنا من ..".
وتوقفت ديليا فجأة , وأخذت تتلوى وتتأوه وهي تضغط على معدتها , فضمها اليه أدموند بقوة وكأنه يريد أن يخفف عنها الألم وهو يزمجر قائلا:
" كان يجب عليّ أن أرسلك مع كارلو في الطائرة بدلا من زانيتا".
فهمست ديليا من بين آلامها قائلة:
" أن زانيتا تحبك".
فسألها بدهشة:
" وكيق عرفت ذلك؟".
" هي قالت لي , كما أنني لاحظت الطريقة التي أستقبلتك بها عند وصولنا الى بينوروس , وكيف عانقتك وقبلتك بأشتياق".
" كان عناقها لي شيئا طبيعيا , فأن هذه هي الطريقة التي يحيي بها البرازيليون معارفهم , ولا شيء أكثر من ذلك".
وكان التعب قد أشتد على ديليا , وأرتفعت حرارتها , ولم تعد قادرة على التحكم في حديثها , فقالت بصوت ضعيف:
" وقالت لي زانيتا أيضا أنك مشيت معها تحت ضوء القمر عنما كنت في زيارة لمنزل أسرتها , وقد راقبتها وهي تتحدث معك على مائدة العشاء . ورأيت كيف أنها لم تكن تشعر بوجود أحد غيرك , وكيف كنت تنصت اليها بأهتمام ".
" كان الأدب يقتضي مني ذلك , ولكنني لم أكن أنصت اليها , فقد كنت مشغولا بمراقبتك وأنت تتحدثين وتضحكن مع كارلو , أن أي شخص يراكما تتحدثان بهذه الطريقة , يعتقد أنكما تعرفان بعضكما منذ فترة طويلة , فقد أستحوذ كارلو على كل أهتمامك في تلك الليلة , بل أنه حتى تجرأ وقبل يدك وهو يودعك على باب الكوخ".
" وكيف عرفت ذلك , وأنت لم تكن موجودا في ذلك الوقت؟".
" بل كنت موجودا , وقد سرت خلفك".
" كنا أعتقد أنك ذهبت مع زانيتا".
" لا , لم أذهب معها , بل وقفت لأتحدث قليلا مع كارلو بعد دخولك الى الكوخ".
" أن كارلو شخص لطيف للغاية".
" وأنا , ألست كذلك؟".
" أنك لطيف مع أي شخص آخر , ولكن ليس معي".
ثم رفعت وجهها اليه في اعياء شديد , وهي تسأله:
" هل زانيتا هي السبب , هل هي السبب في رفضك العودة الى لندن؟ أذا كان الأمر كذلك , فأنني على أستعداد لأفعل كل ما تريده , هل تريد ذلك حقا؟ هل تريد ذلك؟".
فقال أدموند وهو يضع يده على جبهتها:
" أنك تهذين يا حبيبتي , أرتفعت حرارتك ولا تدرين ما تقولين".
" لا , ليس هذا صحيحا , أنني أشعر بالحرارة الشديدة , وأريد أن أشرب , أرجوك يا أدموند أن تقول لي هل تريدني أن أبتعد عنك ؟ هل تريد ذلك فعلا؟".
" أنك تهذين!".
" لا , أنني أعرف تماما ما أقول , وأريد أن أعرف الآن , ومن الضروري أن أعرف قبل أن أعود الى لندن أرجوك يا أدموند ... أرجوك".
" ماذا تريدين أن تعرفي؟".
" أريد أن أعرف ما أذا كنت تريدني فعلا أن أمضي في أجراءات الطلاق حتى يمكنك الزواج من زانيتا أوه يا أدموند أين تتركني لتذهب؟".
وكان أدموند قد تحرك لينزل من الفراش , فقال:
" سأذهب لأحضر لك شيئا ليسكّن آلامك , ولن أغيب طويلا".
وبدأت ديليا تشعر بالدوار , وبدا كل شيء وكأنه يدور ويتراقص من حولها , ووشعرت كأن الظلام بدأ يزحف ليغلف كل ما حولها , ثم شعرت بأصابع تلمس ذراعها , فرفعت رأسها لترى من يقف بجانبها ولكن رأسها سقط وهي تغيب عن الوعي.
وعندما أفاقت ديليا بعد ذلك , كان ضوء النهار قد ملأ المكان ووجدت نفسها وقد وضعت فوق محفة بعد أن لفت بعناية بملاءة نظيفة وهي تحمل خارج الكوخ ورأت وجها ينحني لينظر اليها , عرفت فيه وجه كارلو الذي ما أن رآها تفتح عينيها حتى أبتدرها قائلا وهو يتمتم:
" كيف حالك يا ديليا ؟ كم أنا حزين لمرضك ولكن شكرا لله فقد بدأت تستردين وعيك , والآن , هل تعتقدين أنه يمكنك مساعدتي على الصعود الى الطائرة؟".
فسألته بصوت واهن:
" أين أدموند؟".
فجاءها صوت أدموند يطمئنها , وهو يقول:
" أنني هنا يا ديليا بجانبك".
ثم أمسك أدموند بيدها, فنظرت الى وجهه , ولاحظت أنه يبدو عليه الأرهاق الشديد وقد ظهرت الهالات السوداء تحت عينيه الزرقاوين فتذكرت في هذه اللحظة قول لويز أن أدموند في حاجة الى الراحة , فهو يشعر بالتعب سريعا , فهمست تقول:
" أدموند يجب أن تأخذ قسطا من الراحة , فأنت مرهق للغاية".
" سأفعل ذلك عندما أنتهي مما أقوم به , أما الآن فأننا سنذهب رأسا الى بوستو أورلاندو حيث أضعك في سريرك لتأخذي كفايتك من النوم , هيا دعيني أساعدك على الجلوس".
ومد أدموند يده ليساعدها على الجلوس , فقالت:
" أنني أشعر بتعب شديد , وكل شيء يدور من حولي".
فقال أدموند يطمئنها :
" لا تخشي شيئا , أعطيتك حقنة مخدرة لأخفف آلامك , وستكونين بخير بعد أن يزول مفعول المخدر , والآن سأحاول مساعدتك لكي تصعدي الى الطائرة".
ورفعها أدموند بمساعدة كارلو الذي سبقهما في الصعود ووضعها أدموند فوق المقعد في الطائرة وجلس بجانبها وبعد قليل أقلعت الطائرة ووقف الأهالي يلوحون لها , وكانت ديليا في حالة من الأرهاق الشديد لم تتمكن معها حتى من رفع يدها لترد تحيتهم , وما أن مضى وقت قصير حتى أغمضت ديليا عينيها لتروح من جديد في غيبوبة.
ولم تستيقظ ديليا الا بعد بضع ساعات لتجد نفسها فوق سريرها في غرفة أدموند في بوستو أورلاندو , وكان الوقت ليلا , وأزاحت الغطاء وهي تنظر حولها , فرأت أدموند يجلس الى المائدة الصغيرة يكتب وقد بدا عليه التركيز الشديد وهو يدخن السيكار , وسألته ديليا بصوت ضعيف:
" ماذا تفعل؟".
فأنتبه أدموند وألتفت اليها قائلا وهو يبتسم:
"أهلا , ها قد عدت الى وعيك , أنني أكتب التقرير , وأنت كيف تشعرين؟".
ثم قام من فوق مقعده وأتجه الى الفراش حيث ترقد ديلا وجلس على حافته ونظر اليها نظرة متفحصة , فقالت ديليا وهي ما زالت في حالة من عدم الأتزان:
" أنني أشعر بضعف شديد".
ثم وضعت يدها على معدتها وهي تضيف:
" أشعر كما لو كان بداخلي فراغ كبير مثل ما حدث لي بعد أن فقدت طفلي ".
فظهرت الدهشة الشديدة على أدموند ,وسألها في حدة:
" أي طفل هذا؟".
فرفت اليه عينين يثقلهما النوم , ورأته ينحني فوقها وقد بدت في عينيه نظرة شك رهيبة , وأيقنت ديليا في هذه اللحظة أنها أخطأت بالحديث عن الطفل , ولكن لم يكن أمامها مجال للتراجع فقد خرج الأمر من يدها .
وأمسك أدموند بكتفيها وهو يقول في صوت آخر:
" ديليا , أي طفل؟ يجب أن تقولي لي".
فهمست قائلة :
" طفلنا يا أدموند".
فرأت وجهه وقد شحب شحوبا شديدا , فرفعت يدها تربّت على وجهه في حنان , وهي تقول:
" أوه يا أدموند , كم أنا آسفة لأنني فقدته , ولكنه ولد قبل موعده , ومات بعد ولادته ببضع دقائق".
فقاطعها أدموند بصوت غاضب والشرر يتطاير من عينيه:
" لماذا لم تخبريني بذلك؟ كان من الضروري أن أعرف كل شيء , كان من حقي أن أعرف".
" ولكنني حاولت ذلك بالفعل".
ثم صاحت قائلة:
" صدقني يا أدموند , أقسم لك حاولت أن أخبرك , لقد حاولت بالفعل وكنت أريدك أن تعرف , أوه يا أدموند أرجوك أن تصدقني , أنني لم أستطع معرفة مكانك , ولم يكن أحد يعرف أين ذهبت , فأن الصليب الأحمر لم يستطع أن يخبرني بمكان وجودك , وذهبت الى معهد الأبحاث الذي كنت تعمل به , وكل ما أستطعت أن أحصل عليه هو عنوان عمك الكبير في هامشاير , وقد كتبت له على الفور أسأله , أوه أدموند لقد حاولت كثيرا وأرجوك أن تصدقني".
فبدا على وجهه التجهم وهو يقول:
"بيتر كان يعرف مكاني".
" أعرف ذلك , ولكنه كما أخبرتك من قبل لم يشأ أن يخبرني بمكانك لأنه لا يستطيع أن يخون ثقتك به , وبعد أن تأكد لي أنه يريدني أن أحصل على الطلاق , حتى يتمكن من الزواج مني , لم أعد أثق به , وتوقفت عن لقائه , ولم أخبره حتى بأنني حامل , هل طلبت منه يا أدموند حقا ألا يخبرني عن مكانك؟".
فهز أدموند رأسه بالنفي ببطء , وقال بصوت حزين:
" لا , أنني لم أطلب منه ذلك , كل ما طلبته منه هو أجابتك الى طلبك أذا كنت ترغبين في الحصول على الطلاق".
وبدا الألم واضحا على وجهه , فترك كتفيها وأخذ يسير في الغرفة جيئة وذهابا , ثم توقف وظهره الى ديليا وقال:
" لقد طلبت منه أن يكتب اليّ بأي تطور يحدث".
ثم ألتفت اليها فجأة:
"لو أنني عرفت بأمر الطفل , لو أن أحدا أبلغني بذلك , لعدت لأكون الى جانبك وأعتني بك , وربما أمكن أنقاذ الطفل من الموت , أهذا ما كنت تقصدينه تلك الليلة عندما كنت تتناولين الحبوب المنومة , وسألتك عما أذا كنت قد أصبت بالمرض حديثا , فقلت تقريبا , أليس هذا صحيحا؟".
فهزت ديليا رأسها بالأيجاب وهي لا تقوى على الحديث فقد كان غضبه عنيفا , ولم تكن تتوقع أن يصل به الغضب الى هذا الحد عندما يعرف بأمر الطفل الذي فقدته.

رمال في الأصابعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن