* تحت ضوء القمر الكامل ، و النجوم المتلئلئة، في سماء ليلة من ليالي الصيف القصيرة المقمرة، و على أثير نسيم يحمل عبق الياسمين ، و رائحة كعك البرتقال المخبوز بنكهة الفانيليا الآسرة. انساب عزفها الحاني على الكمان يداعب أذني كل من سمعه في هدوء. كأنما الطبيعة بأسرها اجتمعت و مهدت لليلة أخرى سمفونية ، سكنت فيها أوراق الشجر و جلست العصافير تسترق السمع للحن آخر تستلهم منه، و تعيده على مسامع الراقدين عند بزوغ الشمس . أما القمر فاختار منتصف السماء كملك محاط بنجومه اللؤلؤية ، متلهف لأمسية أخرى كالعادة تبدد صخب حياة النهار المضجرة ، و تعيد الهدوء و السكينة للقلوب في ليلة شاعرية.
هي اختارت ان تترك العنان لأحاسيسها المرهفة و أناملها الرقيقة، تمسك بقوس الكمان المصنوع من خشب البيرنامبوكو البرازيلي. تداعب أوتاره في خجل ،و خصلات شعرها البندقي تراقص النوتات في تناغم . عينيها اللوزتين مغمضتان لا تراعي لأي من قواعد الالحان و الانغام، سوى عزف طمئنينة يأسر قلب كل من يسمعه . ختمت أمسيتها في رقة و انسياب و أغلقت الصندوق معلنة عن امل في اللقاء في ليلة مقمرة أخرى، تروي فيها حكاية جديدة. فهناك من يعزف النوتات و يحولها الى انغام تطرب آذان السامعين، أما هي فكان لها منطق غريب خاص بها، فلكل نوتة حرف في المقابل تجمعها و تركب الكلمات كلمة تلو كلمة، و جملة تلي جملة، الى ان تسرد حكايتها القصيرة لأقرب الأصدقاء. أصدقاء أوفياء وحدهم القادرين على فهم فحوى قصتها ، و المتلهفين لقصصها الليلية قمر و نجوم، اشجار وورود، عصافير و سماء و غيوم ، باختصار شديد بياض ثلج هذا الزمان .
هي شمس، فتاة في العشرينات من عمرها ، ذات بشرة سمراء فاتحة أضفت الى ملامحها الرقيقة جمالية في غاية البراءة. تترجم عبر عينيها اللوزتين ، يميزهما لون بؤبؤ بني داكن ، و شعر بندقي منسدل .مرهفة الحس ، عاطفية و حالمة تطمح دائما الى ذلك الحنين والدفئ اللذان يغلفان قلبها .ما جعلها منذ الصغر تختار طريقا غير الطرق ،طريقا خاصا بها تسخر فيه هذا الجانب من شخصيتها، من ابداع و ابتكار و شاعرية في عالم الفن .ولم تلاقي أي اعتراض من طرف والديها أو أي نوع من انواع القمع ، بل على العكس كانو بمثابة سند ،مشجع و طبيب نفسي في بعض الاحيان على الرغم من مستواهم الدراسي المتواضع. هذا لا يعني أن اذعانهم كان بسبب هذا النقص الدراسي، لكنه كان اسمى بكثير، كان قضية فهم لميول مراهقة ، حلم طفولة، مكان انتماء و احترام لمشاعر رقيقة فتية. ومن ثمة انطلقت شمس دون قيود، في ميولها في بحر كانت هي حوريته البلورية . جربت كل أنواع و أصناف الفن وكان أولهم التمثيل ،لكنها ارادت ان تكون هي في كل مرة فأبت التصنع و تعدد الشخصيات ولم يرضها الوضع . انتقلت الى كل من الباليه، و الغناء ،و الرقص، و المسرح وفي كل مرة لم تجد شمس، لم تجد نفسها . لم ترقها قواعد البيانو ، صعوبة القانون ، صلابة اوتار الݣيتار أو صرامة الناي . وفي غمرةإحباط،ط تناهى الى مسامعها صوت عزف هادئ في البناية المقابلة لقسمها، بينما كانت في حصة الجبر. فقدت قدرتها على التركيز ولم تكن في تلك اللحضة تتمنى الكثير، سوى إنتهاء الحصة الرتيبة التي عرفت فيها انه من المرجح أن يكون في الدقيقة اكثر من ستين ثانية. و ما إن انتهت الحصة حتى انطلقت ركضا عبر الأروقة ، متلهفة لمعرفة ماهية هذا الصوت الذي ترجم بكل ما تعنيه الكلمة شغفها المتقد . كان الصوت منبعثا من احدى القاعات التي غالبا ما تكون فارغة ،لا تدري من أين أتت تلك الشجاعة لكنها امسكت بقوة مقبض الباب، و لم يكن لديها الصبر الكافي بعد ان استنزف بأكمله. ثم و بغثة فتح الباب و سقطت على الارض، لم تكن تدري ما الذي جرى في تلك اللحظة لكنها سرعان ما جمعت شتات نفسها، و باتت تحاول ان تتعرف على الشخص الماثل امامها. لم تكن متأكدة ، بل في الواقع لم تكن قادرة على استيعاب من يكون الشخص الماثل امامها.
أنت تقرأ
خريف في حزيران🦋
General Fiction* هو ذلك الخريف الذي لن تفهمه يومًا ، ذلك الخريف ما هو إلا روح منشطرة نصفًا ، روح عاصفة يلفحها زمهرير تلك الرياح الجامدة ، و أخرى ساكنة تذوب تحت وطأة شمس حارقة . غموض وظلام يغلفان الأولى، و اشراق يتخلله نسيم أقحوان يؤنس الثانية . أنا في منتصف ال...