* تراجيديا السمفونية *

44 2 2
                                    

فتح جفنيه ببطئ شديد بعد ليلة مؤرقة لم يلبي النوم فيها الدعوة ، الشيء الذي جعله يتخبط في نوبات من الأرق و التعب .كانت فيها كوابيسه كالعادة ضيف شرف تلك الامسية الحالكة . كوابيس ألفت رفقته و مصاحبته وبمرور الزمن ألفها هو بدوره .هي نفسها تعاد كل ليلة حتى بات يغمض عينيه و يسرد احداث الكابوس بكل اقتناع بعد أن يعطي الاشارة تلقائيا لشد أطراف الستار و الاعلان عن بداية التراجيديا ، نفس الاشخاص و الاماكن ، نفس الأحداث و المأسي إلا أنه كسب مشاهدين أوفياء لا يرضيهم سوى هذا السيناريو ، سيناريو طغى فيه الاسود و الرمادي بدل الابيض الصافي .

جلس يحملق في السقف الذي كسته تلك الضلال الباهتة ، وهو يجتر ذلك الكابوس الذي كان ولايزال هو ترنيمته الصباحية . ألك أن تتصور كيف بإمكانك كل صباح على مدار سنوات أن تستفيق على إثر غصة تجثم على أنفاسك بدل شعاع شمس يداعب محياك ،ألك أن تتصور عيش نفس الكابوس وأنت تستحضر نفس الأحداث، و الاشخاص بل حتى نفس الاصوات الصارخة، الصاخبة و الأحاسيس الدفينة، المؤلمة، ألك أن تتصور إعادة هذا السيناريو صبيحة كل يوم كأنك تدور في حلقة مغلقة ذلك لو بامكاننا القول بأنه يوم أخر فقد أصبحت الأيام نفسها تعاد .
نهض كعادته متثاقلا تجره سلاسل حديدية صدئة سلاسل ماض لا يموت ماض تبث على فونوغراف عتيق مزخرف يحمل أسطوانة ذهبية ، أسطوانة تسرد في كل مرة تلك السمفونية التراجيدية.
فتح الصنبور ثم انهمرت المياه الباردة على انامله الدافئة ، فرك وجهه برويدة يمحي أثار الأرق لا النوم بعد أن جعل من سكون الليل و هدوء الرياح حفلا ليليا تلتف به الجدران المزخرفة ،جدران نقشت عليها ذكريات دافئة لازالت حرارتها تدفئ قلبه في مثل هاته الليالي القارسة . ذكريات تمثل و يشاهدها أمام ناظريه ، ذكريات تعاد و في كل مرة يحاول أن يلمسها تندثر و تنطفئ اضواء الحفلة وشموعها ، وتخلو قاعة الرقص سوى من صدى تنهيداته المتتالية و صرخاته المكتومة .
جلس يحتسي كوب قهوته الصباحية بشرود ، يخمن كيف سيمضي يوما آخر بدونها . بدون ضحكتها الطفولية التي طالما ما محت عبوسه ، بدون ابتسامتها و لمساتها الرقيقة التي ألف أن تستقبله بعد يوم طويل كانت كفيلة بأن تمسح ملامح تعبه و قنوطه، كيف ؟!!
لقد مرت بالفعل سنين على اخر لقاء
طال الفراق و لم يجد المكلوم حضنا دافئا يبلسم الجراح
طال الفراق و أشتد به الشقاء
تأبى العقارب ان تتحرك و الساعات ان تنتهي
أبت الليالي المقمرة أن تنقضي
فارقت روحك الجسد و لا زلت بين الفينة و الأخرى تزورني
حتى تستطلع هل لازال نفس المكان بالقلبِ أم أن الدهر ينسي .
همس بهذه الكلمات من بين شفتيه برفق قرب تلك الحمامة الثلجية ، يمسد بيده جناحيها وهي تنصت بدورها لرسالته كملايين الرسائل التي مليت عليها علها تصل اصحابها ترمم مشاعر التائهين ، تضمد جروح المهجورين و تواسي قلوب المكسورين ،تنتظر أن ينتهي حتى تترك العنان لجناحيها، حتى تحلق ...
حدس الحمام لا يخطئ ، توصل الرسالة لصاحبها دون حاجة لدليل ، توصلها وهي موقنة أن متلقيها في تلك اللحظة، وفي ذلك المكان هو الأجدر بتلقيها قد تختلط الرسائل و تتقاطع طرق الحمام إلا أن كل منا يستلم تلك رسالة الوحيدة، رسالة القدر له . ففي النهاية رسائلنا هي من تختارنا و تحدد كيف ستؤول الرواية ، ونحن من نصدق أننا نسجنا الحكاية .

خريف في حزيران🦋حيث تعيش القصص. اكتشف الآن