حلم، لكل منا حلم في هذه الحياة . حلم أن تنجح في اول خطوة لك بقدمين متعثرتين، حلم قطعة بسكويت الفانيلا والشوفان كمكافئة بعد اجابة صائبة،حلم الحصول على فستان زهري تزينه تلك الاشرطة البنفسجية و الاحجار اللؤلؤية. وحلم يتيم باحضان حانية و بطانية دافئة ،في عشية عيد ميلاد بالقرب من شجرة و مصابيح ملونة كريستالية .ان تلامس القمر بيديك، ان تجري مبتعدا عنه بقهقات طفولية بريئة عالية، تظن انه يلاحقك ،انه بجانبك على الدوام يراقبك .فعندما تحجبه الغيوم تنتظره تحت نافذة مفتوحة ،و عينين دامعتين و خيبة امل لا تمحيها سوى قبلة على خد من ام صادقة. ان تعثر على مكان علبة الشوكولاتة ، المارشميلو،و مدينة الاحلام الليلدورادو. ان تلاقي عرابتك ذات الجناحين ،و أمنية ذهبية تحولك الى سندريلا في حفلة راقصة تثيرين الانظار، و موسيقى تلامس اوتار القلوب .احلام هي ام اوهام لا ندري .هل ستتحق يوما ،ام سنشيخ ونحن نحلم بالتلاقي؟ هل سنظل في كل ليلة عندما نغمض أعيننا نستقبل دمعة على الخدود، غصة في القلوب ،ونعد الثواني التي تطول ؟هل من امل فيك يا مجهول؟ ام ستمضي الايام على حالها يملؤها الفتور. بت احرس الليالي الطويلة حتى لا يغيب عني سقوط شهب الامنيات في الحقول ،و كم من قارب ورقي صنعت وأودعته في المياه ،يحمل حلمي ،حلم أخشى ان تعصف به تلك الرياح. هل ستحققين يوما يا أمنيات أم سيكون للقدر رأي أخرويصبح اللقاء محال.
جل ما أعرفه أن يازيد قد ابتسمت له الفرص و الاقدار، واختارت امنيته ان تبحث هي عنه لا العكس. شاب ثلاثيني يعيش في هدوء ،حياة رتيبة كانه عالق في يوم واحد يعيد نفسه .نفس الاشخاص نفس المكان ،و نفس الاحداث ،حتى الملامح باتت جامدة .بدأت حياته هذه عقب تخرجه من كلية الطب ،فرحة بالنجاح و حماس تجاه مستقبل، لكن هل يدوم. طرح هذا السؤال بعد أن صدم بالميدان أو بالاحرى بعد ان نزل ساحة المعركة ، معركة لا قانون فيها سوى العملة. كان من المفترض ان تختار والديك بعناية قبل الولادة، كان عليك ان تولد و ملعقة من فضة في فمك ،لا ان تبحث عن ملعقة من حديد لوحدك .كان من الاجدر ان تكون ولي عهد لامبراطورية ما ،لا عبدا تبحث عن قوت يومك و تعاند أسيادك. أهذه فعلا هي فلسفة الحياة التي بتنا نعيشها ؟ام قاعدة اخرى باتت تطبق باذعان ؟ لكن هذا هو الواقع الذي خضعت له القلوب و الابدان ،و بما فيهم يازيد. كانت أولى صدماته بعد أن أقسي من عمليته الاولى بدافع التجربة و الجدارة، امام بروفسور لم يتح له الفرصة ليبرز مهاراته حتى .ما ظن أنه بتخرجه سيكون كدمية في يد زميل في الميدان ، أو رجل صعاب كبديل تملئ به الفراغات، و يكون اول كبش تضحية في بعض الاحيان. أ كان اليتم سبب خيبته، ام كان الفقر صديق طريقه . تعلمت من هذه الحياة أن الموازين تقلب ،و الاقدار تتغير ،و تفتح أبواب جديدة من العدم يكفي ان لا تستسلم ،حتى لا تندم .
أدخل المفتاح في فوهة الباب، و أداره كالعادة بألية. حتى الباب بات ينتظر مجيئه ،ليواسيه بذلك الصوت الذي يصدره. يسأله كالعادة أ يوم هو كلأيام الماضية؟ فيجبه يازيد في قرارة نفسه و هل من جديد في حياتي الفانية ؟ وضع المفاتيح فوق رف من رفوف الكتب التي تفوح منها رائحة كرائحة خشب الصنوبر ،و في تراتبية يبدأ طقوسه اليومية .حمام ساخن يمحي تعب النهار ،تلفاز لا يشاهده أحد يؤنس عزلته ،و إبريق قهوة يغلي في المطبخ يعطر الاجواء. يقف امامه كالصنم ينتظر أن تطفو رغوته البنية على السطح في ثوران، و كوب أرجواني مخصوص تدفيه قهوة ،لا تدفي قلبه المكلوم. يستند على كرسيه في استرخاء محاط بالكتب و المجلدات، امامه مباشرة يمعن فيه النظر ،و يسترجع ذلك اليوم الذي كان هو فيه نقطة التحول .
دقات خفيفة على الباب تنم على الاحترام، ثم فتح الباب بعد أن سمع ذلك الصوت الرخيم الذي طالما كرهه، حتى بات يراه في الاحلام . يسمح له بالدخول أ جربت يوما أن يكون صوت ما يزعجك حد الجنون، و تسمعه كل يوم في كل دقيقة و كل حين، واحساسك بالرغبة في تكسير كل ما تحمله على رأسه عندما يستفزك بصوته .انه نفس الاحساس الذي انتاب يازيد في تلك الحظة .
_. صباح الخير بروفسور . لم يجب ولا حياة لمن تنادي.
تململ في جلسته وزم شفتيه محاولا كتم غيظه ،و أن يغطي عن حيرته وارتباكه .
-حقيقة، لقد اجلت فكرة هذه المقابلة مرات عدة، كنت مترددا و أحاول أن اختار الوقت المناسب لافاتحك في موضوع مهم .
-هنيئا ! لقد اصبت في اختيارك للوقت المناسب . اجاب في تهكم و اضاف ، على بعد نصف ساعة لدي امر طارئ يجب علي قضاؤه لديك عشرة دقائق انا في الاستماع اليك .ثم لم يرفع راسه البتة وأكمل في عمله.
أخذ يازيد نفسا عميقا، ثم اختار ان يفرغ ما كان يثقل كاهله .
- ليلة امس كنت اضع اللمسات الاخيرة على اكتشاف من شانه ان يقلب البشرية راسا على عقب.
ساد صمت قاتل بينهما و توقفت يداه عن الكتابة، رفع راسه برويدة و ضيق عينه وخاطبه .
- لم اسمع جيدا ما تفوهت به حالا، ماذا قلت ؟
- لقد قمت باختراع من شانه ان يصنع التغيير ، واحتاج فرصة منك لانجاحه .
ابتسم باستهزاء و علق ،وما فحوى هذا الاختراع يا ترى اختراع جعلك تأتي تلتمس مني يد العون و تجرؤ على استغلال شهرتي و صيتي، لتبني مجدك و اسمك. أ أخيرا اذعنت و قررت أن تترك عنادك و ثقتك الزائفة جانبا، و تجرب طريقا اخرى للوصول .أ اقتنعت بانك لن تصل ان لم اساعدك كالاخرين، متملقون يجاملون يخالون ان تعاليقهم الغبية و ابتساماتهم العريضة تسقطني في شراكهم.
جمد جسده و عجز فمه عن النطق لما آل اليه الحوار، و كيف فهم هو الاخر طلبه، و حوله الى جرم قد يعاقب عليه. كيف تجرأ ان يهين كرامته و يقارنه بالاخرين .
- عذرا اظن انك اسئت فهمي، انا لا انوي الاستغلال بل على العكس انوي ان ابني مجدي بدوري، و ان يصل صوتي لا صوت غيري. كل ما احتاجه هو الدعم و على الخصوص دعم مادي لا غير .
- وتظن انني ساراهن على مشروعك، و اغامر وأنت في بداياتك .ما الذي سيدفعني الى تبني هذا المشروع، و الكثير مثلك يسعى لفرصة مني .
برقت اعين يزيد ،و اخرج ملفا بيديه المرتعشتين، واضعا اياه امامه على المكتب و صمت . فالعنوان وحده كان كفيلا بان يعجز كلاهما عن الكلام.
رمق الملف ببرود و ما ان وقعت عينيه على العنوان حتى توقف عقله عن التفكير. لم يتكلم و لم يبدي اي تصرف ،جلس مستغرقا في تلك الكلمات المخطوطة بخط يد مرتعش .
*دليلك نحو حياة بدون موت *
أطلق تنهيدة مريرة ، واغمض عينيه ببطئ يرجو أن يهرب إلى عالم الأحلام. على أمل أن يلاقي ما يرجو، أما الواقع فبات كابوسا يرجو منه أن ينجو .
أنت تقرأ
خريف في حزيران🦋
Ficción General* هو ذلك الخريف الذي لن تفهمه يومًا ، ذلك الخريف ما هو إلا روح منشطرة نصفًا ، روح عاصفة يلفحها زمهرير تلك الرياح الجامدة ، و أخرى ساكنة تذوب تحت وطأة شمس حارقة . غموض وظلام يغلفان الأولى، و اشراق يتخلله نسيم أقحوان يؤنس الثانية . أنا في منتصف ال...