كنت أظنّ أنني ممّن يُجيد التجاهل
لا أعني أنها بقيَت مجرّد ظنون، لقد فعلت، بل أتقنتهُ جيّدًا.تعلّمته في آخر لحظة استدرتُ فيها وحملتني قدماي عن باب منزل صديقي الوحيد وأنا أعِي استحالة أن نعود كما كنّا، وأنني لن أسمعَ همساته المتجليّة في منتصف الليل وهو يلوح من نافذتي المطلّة على نافذته بالمنزل المجاوِر ليطلب مني أن أقُصّ له شيئًا حين لا يزورنا النوم.
علمتُ أن جزءًا منّي قد تركَني إلى الأبد، وأنني سأشتاقه أكثر مما فعلت في العُطلات التي يُسافر فيها لمنزل جدّته.
سأشتاق لركضه خلفي متعمّدًا عدم تركي وحيدة، والاستماع لهمسه المنفعل بينما ننهمك بألعاب الفيديو، أو إطراءاته المبالغ فيها على فطائر أمي المحشوة بالفراولة، ولن أسمع همهمته حين أستجيب لمهاتفاتِه بمنتصف الليل ليُخبرني عن كابوس أزعجه.. وأذكُر كيف بدت لي سخيفةً وقتها، كظلٍّ أو مهرج أسفل فراشه.لن أعود لأنظر لعينيه المحتجزة لدموعه حينَ يمنعه أخاه الأكبر من الخروج خلفه وقتَ ذهابه للتسكعِ مع أصدقائه فأُجالِسه أنا كتعويض، ولن نسافر معًا لكل الأماكن التي أردنا الذهاب إليها، ولن أقف جواره لأخذِ صورة لنا أمام المقهى الذي نحبه جوارَ الشاطئ. وبالتأكيد لن أكون هناك حين يواصل فعل الأشياء التي تغضِبني، قبل أن يعتذر عنها في نهاية اليوم. وكيف سأشعر في الأيام التي سيتجاهل فيها الجميع أو يعتريه مزاج معكّر.
ولن أعلم ما يؤرقه عندما نصل للثامنة عشر، والأشياء التي لن يتوقّف عن الحديث عنها حتى وإن أغلقتُ الباب بوجهه.
هذا لأنني من حال الباب دون خطواتي.. ذلك الذي كان يُغلق شيئًا فشيئًا دون أن ألاحِظ، حتى انتهى بي المطاف واقفةً أشاهد ايضاده بلا شعور منّي أو منه -ربما-
قد نلوم الوقت على هذه الانجرافات، أو العمر، أو الحياة لو أردنا، لكن في قرارة نفسي، لم يكن هناك من ألومه سوانا. والسؤال الوحيد هو.. لمَ نفعل هذا ببعضنا؟
أيقنتُ أنه لم يبقَ لي سوى أن أتجاهل كلّ ما سيمُر؛ لأنّ كل ما سبق لن يدعني أخوض شيئًا جديدًا. وكأنني قد تعلّمت جميع الدروس الممكنة ولم يبقَ لدي وقتٌ ولا قوّة لانتظار الجديد.
الحب والخسارة أصبحا مرادفين بالنسبة لي. وجهان لعملةٍ واحدة أحتفِظ بها في جيبِي الخلفي، وربّما أسقطتُها دون أن أشعر، لكنها بقيت هناك، قبل أن أختار تركَها منسيّة، لتضيع في مكان ما بخزانتي التي أخشى فتحها في الظلام.
آخرُ ما أذكر ايجاد نفسي عليه بعد أن أضحى كل ما أملكه هو أركان منزل شاغر إلّا منّي ومن شبحِ عائلة- هو أن عليّ التعايش مع هذا، وأن الوقوف كلّ يومٍ أمام الاطار الذي يحتضن الصور لن يُعيدها للحياة.