الرجُل المجهول

132 17 19
                                    

كنتُ أعلم أنه من غير الحكمة أن أقف أمامه كل يومٍ، وأتساءل عمّا كان يمكن أن يختلف لئلّا تمر مثل هذه الدقائق بطولٍ شديد على كلينا.

كان هادئًا دومًا، في صمتٍ جنائزي معتاد، وربما كان عليّ أخذ تلك كاشارةٍ لما هو عليه كبشرٍ في كل مرة وقفت دون أن أنتظِر اجابةً منه بالضرورة.

"ماذا سنفعلُ مساء هذا السبت؟" ماذا سنفعل؟ كنتُ أكرر، وأنا أعلم الاجابةً أكثر من أي شخص آخر، ربما أكثر منه حتى.
"أينَ تفضّل الذهاب بعد الساعة الثالثة؟ أين ستقضي الليلة؟ أم تريدُ النوم وحيدًا كعادتك؟" مثل هذه الأسئلة التي لم يمنحني اجابةً عنها أبدًا، كانت تنخر ذهني، تأتي وتذهب، لكنها لا ترحل.

كيف كان ليبدو الشعور بامساكِه حول كفّي المتجمّد. حتى في الصيف، كان الشتاء ينتهك أطرافي، وكان يشاهدني وأنا أفرك كفّاي داخل جيوبي، ثم ينظُر أمامه دون أن يقول شيئًا. مع ذلك أحببتُ تخيّل ما سيحدث إن وجدت يداه طريقها في المساحة الضيقة في سُترتي، واستطعتُ أخيرًا أن أعلم ما يعتريه من أطرافه الميتة.. هل سأجده في الحقيقة أدفأ مما تبدو عيناه؟

أُمسيات السبت، ومتابعة طيف الشمس وهي تعلن عن نهاية الليلة- كانت تلك أهم ذكرياتٍ احتفظتُ بها، فيما وجد هو فيها طريقةً لانهاء كأسٍ آخر، واشعال سجائره عندما نقف على سور التلة المطلّ على المدينة، متعمدًا نفث كل ما لديه ببطء مميت، متحاشيًا الانتظار.

شيءٌ حوله جعلَ الحزن يتملّكني وأنا أراقبه بدلًا عن باب الحانة المُغلق بعد ليلة طويلة، وكنتُ أبكي حين يرحل، أبكي حتى أكاد ألّا أشعر بوجودي في ذات العالم معه. أبكي كثيرًا، خوفًا من المسافات البعيدة التي أثارت ذعري أكثر من أيّ شيء آخر.. وكانت هي الوحشَ على أكتافِه، تحمله بعيدًا بمرور الأيام.

كان بامكانه الصراخ بي إن أراد. أن يخطو على رفات سجائره بغضبٍ وأن يخبرني أن أتركه وشأنه، لكنني سأمتنّ على الأقل أنه لا يزال يتحدّث، ولا يزال يستوعب ما أقوله بصوت خافتٍ جدًا، أخاف أن أخترِق به حيزًا غير مسموحًا لي خلاله.

لكنه من كان يقول لي "يجب على المرإ أن ينفجِر أحيانًا" في الوقت الذي لا أقدِر على رؤية كأسي في طاولة الحانة، وأشعر كفقاعة قبيحة. حينها يجلس هو أمامي، ويمدّه نحوي بكفّ ثابتة، وأرتعش حين أمحو دموعي أمامه دون اعتبارٍ لما قد يراني عليه.

أردته أن يزجرني، لكنه فقط يتخيّر البقاء على كرسيّه، ومشاهدتي أحاكي كلّ ما يفعله. أتجرع كأسًا وراء آخر، ويدفعُني لأواصل على خُطاه. ليس تحديًا منه أو له.. لقد بدت لي كمحاولة أن يواسيني بطريقته. وكانت محاولةً مني لأجعله يستوعب أنني أهتمّ لحزنه، حتى لو لم أعرِفه جيدًا.

"كان من الجيّد البكاء مع شخصٍ آخَر" كان ذلك آخر ما قاله لي بابتسامة تكاد أن تُذكر، وأردتُ تفنيده. أردتُ أن أخبره أنني لم أرَه يبكي يومًا. منذ اللحظة التي تقابلنا في تلكَ الحانة، وأصبحنا نقضي أمسيات السبت مع بعضنا دون الاهتمام بمن نكون أو ما جلَبنا إلى هنا. لم نحكِ عن مشاكلنا قط، لكننا علِمنا بوجودها، واختار هو تجاهلها، ومنحي المساحة للبكاء عليها جميعها.

"ألا تمقُت هذه المدينة؟" سألته مرّة. فنظر لي مطولًا حتى شعرتُ بالهواء يُحجر بصدري.

"بالطبع. لذلك أخطط للرحيل، قريبًا" قال، وأنهى عبارته بنظرةٍ لما يدنونا. المنازِل، والمحال، الأشخاصُ، وهم يسيرون دون درايةٍ عن الأركان والخدوش في حياة بعضهم.

أتساءلُ ما الفرق الذي يُحدِثه معرِفة أي شيء في العالم؟
الفرصة المجحفة لادراك أنّ للجميع هموم لا يملكون وقتًا لمعالجتها أو البكاء عليها، فتبقى الأكتاف المعبّأة بالأثقال هي كل ما تراه.

ما ذنبُ من يعي كلّ هذا دون الأغلبيّة؟

"إن رحلتَ يومًا، فتذكّرني" طلبتُ بخوفٍ، بادراكٍ تامّ أنني قد أكون أحد الأشياء التي ستذكره دومًا بِلما وكيف كره المدينة، وما منحَتهُ من مشاهد لم يحب سردها- لكنني فوجئت بايماءٍ صغير منه، وكلمة وداعٍ أقل اختصارًا من المعتاد.

"لمَ لم تتجاوز سور التلة في ذاك الصباح؟ لمَ لم تترك روحك تذهب أبعد من كلّ هذا، وأبقيتَ جسدك محاصرًا هنا؟"

في كل مرة رحلتُ فيها من المقبرة بعد ذاك السبت.. بقيتُ أتخيّله يجيبُ عن هذه الأسئلة بابتسامة صادقة لم أرها على وجهه يومًا. ابتسامة خالية من المرارة والغضب المدفون، ومن الآثار السيئة للأيام عليه

وهو يخبرني : "حتى أراك مساءَ السبت القادم.."

نشيد الرجُل المجهولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن