"توقف عن التفكير! دع الحياة تحدُث. لا تستطيع فِكرة مجرّدة أن تغيّر شيئًا"
كرر كاسبيان هيبنوس لنفسه، كلمات لا يعلَم من أين التقطها، لكنها كانت كافية ليطلق العنان لضحكاته، ويطرح سؤاله التالي بهمسٍ متوارٍ خلف يده التي مرّرها على وجهه
"كم مرةً مِتُّ منذ البارحة؟".
ألفى يحدّق بظاهِر كفّيه وهو يبسطهما أمامه، لينظر للبقع الأُرجوانية عليهما. وتبرّم من الألم الذي حلّ بجنبيْه وعُنقه المتيبّس، بينما فقدت ساقاه للحظةٍ القدرة على حمل طوله المتعرّج عبر شارع الجادة الذي يظن أنه مؤدٍّ لغرفته الصغيرة قرب مكتب البريد. هذا إن لم يكن مخطئًا، واكتشف في نهاية المطاف أنه أمام الدير الذي تشرِف عليه السيدة بريكستون.
آه، تلك المرأة، لطالما أضحكته ! لقد اعتاد أن يراها تخيطُ الأرجاء بغطاء رأسها حتى في أيام الصيف القائظة؛ لتوزّع 'رسائل الله' بين المارّة. ثم تصيحُ ملء حنجرتها أنّ وقت التوبة لن يحل حتى يُنهِضوا مؤخراتهم عن مقاعد الحانات -غير المريحة بالمناسبة- وأسرّة المواخير* -والتي بدورها ذات رائحة عطنة-
وربما كان هذا هو السبب المحدد، الذي دفع الجميع للمرور بمحاذاتها وكأنها حصاة أُخرى عليهم تجنّبها في طريقهم للعمل؛ فبالطبع لا أحد يريد أن يسقُط ويوسخ ملابسه بالمواعظ المُمتهَنة.
ثم حين تجد شمس الظهيرة تشكُر سعيها، يسمعُها وهي تلعن ما تمنّى أن تكون الشياطين ومن صلبوا المسيح، ثم يراها تهرول عائدةً للدير حيث تنتقل لمرحلة جديدة من تلقين الأطفال الميتّمين، فعلى الأقل تلك لم تكن مهمةً صعبة، بصرفِ النظر عن أنّ كاسبيان قد كان حالةً خاصة تجعلها تقبّل تمثال العذراء خمسين مرة حين تراه يمرّ بمحاذاتهم ويغادر بصمتٍ.
عاد لما هو فيه، ولم يفِق لسبب ضحكاته التي بدأت تتصاعد جاعلةً المُشاة يتحاشونه، بيد أنه لم يملِك يدًا لإيقاف نفسه؛ إذ لم تراوده فِكرة تجعل مخيّلته تتوقف عن تصويرها بشكل السخيف. لكنه على الأقل يعرِف ثلاثة أشياء؛ أولها أنه لا يعرف ماهية هذه الفكرة، ثانيها أنها جيّدة لصحته بما أنها ليست خمرًا، وثالثها، ربما كانت حول أنه لا زال يعرِف كيفَ يُفكِّر حتى هذه الساعة، وهو أمر استثنائيّ بالطبع.
ذهنه اختمَر بشكل أفقد الأشياء والمباني هيئتها الحقيقية، ولم يرَ الناس أكثر من أطيافٍ متطاوِلة تحوم حوله بشتّى الألوان، ولغرابة الأمر، وجدها تهمس وتُصدر هسهسةً، كما يفعل ظله الذي اختفى عند أركان حدقتيْه.
وكان هناك شيء آخر جعله يضحك أكثر بانجرافه مع سِياق أفكاره، وهو يعود ليتذكر كيف اعتادت النسوة في غلاسكو أن يُخبرن والدته طوال الوقت: 'ابنك ملبوسٌ يا بيزلي، خُذيه للمستبصر ليرى أمر عين الشرّ فيه'. وتخبره الأخيرة عن كمِّ الهلع الذي حلّ بقابِلاتها لمّا أخرجنه من رحمها، وشاهدن عيناه التي لوّنت يُمناها كالطمْي والأخرى بالأزرق، فكِدن أن يُسقطنه وهنّ يهرعن خارجاتٍ من الغرفة. فيقول لوالدته بنهاية القصة بأنهنّ ما كنّ ليفعلن ذلك لو كان دمه هو ما لُوِن بالأزرق*.