"اللعنةُ عليكم، لتسقُط السماء على رؤوسكم فتتركها هشيمًا ! أيها الرِعاع، لقد جعل إلٰهكم من الأرض حظيرَةً لتعوثوا فينا، وها نحن ندفع ثمَن دهون بطونِكم !".
لم يتوقّف بيتروڤ ثيلبسي عن اعلان سخطه المتلاحق، حتى حين وصل لمنتصف الساحة الحمراء بعيدًا عن مكتب التوظيف البلدِيّ، والذي صُرّف من بابه بحجّة أنه وقت افطارِهم، ثم حين وجدوه لحوحًا ليحصُل على وظيفة منظّف رصيفٍ أخبروه أنه لا توجد فرصة شاغرة كتلك.
وكأنه كان ليقتُل نفسه ليحصل على 'فرصة' كهذه، لولا ايجاده لاعلانٍ لها. والآن بات عليهِ تقبُّل أنها كانت مجرد مزحة ثقيلةً على الصحيفة مثلًا؟
قديمًا، حين عاش في بلدته السقيمة، كان هو من يختار ما سيفعلُه في يومه ليكسب قوته. ولكن ما إن بات هنا في موسكو الشاسِعة، لم يبدُ أن هناك شيء كافٍ أبدًا، كان يأكُل ليجوع، يشرب ليعطش، يقدّم للوظائف لِيُرفض.
لقد ضحك حين رأى الهشيم والحقول تحترِق في منزله القديم وأعمدته تسقط فوق رأسِ الأرض، ومضى يكرر أنّ الجميع قد كانوا حمقَى حين كذّبوا ما قاله؛ أنهم إن لم يرحَلوا فسيُرحَّلوا.
حين جرّ حقائبه لأطراف البلدَة المحترِقة بأكملها دون رجعة في تلك الليلة، رأى الجنود على حصِينهم يلتقفونَ أعداء النِظام، والذين كانوا كُثرًا بالطبع، ومنهم بيتروڤ الذي سبقهم جميعًا في العداوة.. ولازال.لكنه لو كان أدرى بما سيلي ذاك الرحيل، لبقي وشاهد أطرافه تحولُ لنقانِق مشويّة بسعادة.
"في ايطاليا حكم بورجيا لثلاثين سنة. كانت عندهم حروب، ارهابٌ واراقةُ دماء، لكنهم أنتجوا مايكل انجلو، ليوناردو داڤينشي، وعصرَ النهضة. في سويسرا، كانت لديهم المحبة، خمسمئة سنة من الديموقراطيةِ والسلام، وماذا أنتجَ ذلك؟ ساعةَ الوقواق !"
في مجموعة العلاج التي يحضرها خِلسة، كان هناك رجُل من أعداء الراديكالية، كرهه الجميعُ من تحتِ أنوفهم لكن لم يستطِع شخص اخباره أن يُطبق فمه؛ ذلك لأنّ مُعظم ما كان يقوله واقعيّ لدرجةٍ تحبط كبرياءهم. حتى المُشرف الكهل الذي يدير الجلسَة لم يكن لديه ما يقوله، ويكتفي بالتنهُّد حين يأتي دور الأوّل للحديث.
"انه يعاني من شيزوفرينيا، ونرجسيّة كما قالوا. يعتقِد أنه إبن أحد النبلاء الذينَ بنوا النِظام ويملِك حصانة دبلوماسية. لا أطيق انتظارًا حتى أرى رأسه يُقطع !"
همس الجالِس جوار بيتروڤ له، ونفث دخان سيجارته لتكوّن سحابة أمام فمه، وكأنها تكممه وهو ينطق تِلكُم الكلمات ويضحك بشزر. لا يعلم أن أفكاره تتبنى ذات المبدأ؛ فإن كان يريده ميتًا، فالرجل يفعل ويتمنى ذلك لجميعهم، هذا إن كان فهمهم بطيء لكيلا يسترشدوا لما يرمي إليه !