الفصل الأول

1.5K 18 0
                                    


                                 
                                الوقت الحالي:

" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي."

ترتيلُ الشيخ جعل الدموع تنزل من عيونه دون توقف...لم يخجل وعمه حمزة يضغط برأسه على كتفه ويهمس له بمواساة بحشرجة...يحاول منع دموعه التي تخنقه من الانفلات...هو الآخر.
- " معاذ... الموت علينا حق يا بني...استهدي بالّله"
وصلت لمسامعه همسة معاذ بأنه لا يستطيع ... ليجلسه بجانبه يُقربه أكثر لصدره ويعانقه بشدة كابن لم يحظى به يوما...وكزوج ابنة فارقتهم قبل الأوان....... يتذكران رجلًا كان كل شيء لهذا البيت ولكافة القرية...رغم أنه كان قاسيًا...إلا أن الكل أحبه واحترمه...!!

تنملت يده...وهو يستقبل تعازي آلاف من القرويين... غفير تابع جسده حتى مثواه الأخير.
جسد أبيه الذي غادرته الروح، لينطفئ ويفقد هيبته... يُحمل على كتف ابنه وأخيه...وابن عم زوج فدوى ثم يوسف العالمي...الذي حضر العزاء نيابةً عن عائلة العالمي...والذي قدم مباشرةً من المطار، ليوقف سيارته بجانب الطريق وهو يلمحهم قادمين خلف جثمانه...تبادل النظرات مع معاذ وكأنه يُحَاول مُواساته والتخفيف عنه كما يفعل دائماً...وبدون كلام كان يطلبُ من أحد شباب القرية أن يسمح له بشرف المشاركة في حمل نعشِ رجلٍ كان والد أخيه...

شيئاً فشيئاً ...كان يتوارى جسده بين التراب ...لا صوت يُسمع إلا ضربات المعول في يد يوسف وحمزة اللذان تكفلا بإعادة التراب على جسد الشيخ ...كان ضعيفاً من أن يقوم بالمهمة... من أن يدفن والده في تلك الحفرة الضيقة... حيث الظلمة...لا أنيس ولا ونيس...وحيد مع أعماله... قشعريرة خوف سرت على طول ظهره... جعلته يهمس بخشوع:
" اللهم إن أبي في ذمتك... أقيه فتنة القبر وعذاب النار...اللهم اغفر له وارحمه...ولا غفور ولا رحيم إلا أنت... اللهم أنر قبره...اللهم أنر قبره...اللهم أنر قبره"
ليخر راكعًا...أمام قبره الذي استوى مع الأرض...وكأنه لا يحتوي جسدًا... فارقه لسنوات...وهو موقنٌ أنه سيعود وسيجده حيث تركه...شامخًا ذو نظرة كبرياء وصرامة...!

لم يضع في حسبانه انه سيودعه يومًا للأبد... رفع نظراته حيث القبر الآخر...حيث يرقد قلبه...إحدى المسلمات الثابتة التي اتخذها والتي ظنها لن تتزحزح يوماً...لكنها تزحزحت لتُزلزل بحياته...وتجعله متخبطًا أكثر...لا يعرف أي معاذ هو...!؟ الشيخ...الزوج ام الأب...أدوار خلفها موتها...فأصبح تائهًا بدون مرفأ.

حطت يد عمه حمزة على كتفه...تُرجعه للحاضر، كانا الوحيدين في المقبرة بعدما احترم يوسف حزنهمَا وتركهما ملحقاً بالجماعة .... بأيدٍ مرتعشة كان يُساعده على الوقوف...

- " لنذهب معاذ... "
قال هامسًا لابن أخيه...يتشابهان في فقدهما... كلاهما فقدا غاليين... كلاهما غارقين في تأنيب ضمير... يلومان الوقت الذي ضيعاه...واللومة فيهما.

جرح وشم الروح! ملاك علي.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن