الفصل السادس والعشرون

827 12 3
                                    

( ماذا تريدُ لقاء أن تُخرجني من البلاد أنا وطفلي؟")
أعاد القراءة عدة مرات، في كل مرةٍ كان يكتبُ ردًّا يعود ويمسحه...ماذا تُريدُ منه؟ لماذا تلجأ إليه بالضبط؟؟؟
أحسَّ أنه مُراقب ليلمحَ عيون والدتع الشبيهة بعيون أخيه تُحدقُ إليه، كان يحتاج للمشورة، ابتسمت له والدته وهي تُخرجَ ذراعها النحيفة جدا طالبة منه أن يُمسكَ بها.
-" لماذا هذا التردد يا بني؟...هلِ الأمرُ متعلق بامرأة؟"
همست والدته بينما كفه تُغطي كفها...لتشعر بسكينة تستمدها من بره بها.
هو لا يعرفُ كيف يُراوغ، كيف يلتف حول موضوعٍ شخصي، رغم أنه داهية في ما يخص عالمه الآخر المخفي.
-" تُريدُ مني أن أساعدها على الهروبِ من  البلاد؟"
- " إذن الموضوع عن "أنثى"..." قالت بابتسامة مُشرقة...أضاءت ملامحها الذابلة من المرض!
-" ليس الأمر كما تظنين..لديها مشاكل مع زوجها يُهددها أن يأخذ طفلها منها إن استمرت في طلب الطلاق" ملامح والدته بهتت فجأة وقد تذكرت جُرحاً دفنته حيًّا لسنواتٍ في جوفها، مُعتقدةً أنها سلمت من ألمه...لكن الألم فقط كان يكبر ويكبر مُتغذيا بكل ذكريات الماضي...ومُتجسدا في فلذة كبدٍ كان الثمن لحريتها هي!
سكتت لدقائق تُحدقُ بعيدا لتهمسَ تترجاه "عدني أنكَ ستُستعدها بني...عدني أنكَ ستجعلها تهربُ بطفلها"
ضغط على يدها حتى شك أن الإمتعاضة على جبينها من الألم الذي سببه لها...ليهمسَ يترجاها ألا تُثقل كاهله بوعدٍ لا يصعبُ عليه تحقيقه. بل هو فقط لا يُريدُ أن يغوص مجددا في مشاكلٍ لا تعنيه " أمي أنا لا أستطيع أن أعدكَ...عاجلا أم آجلا القضاء سينصفها...خصوصا أن زوجها يُعنفها وطفلها.."
قاطعته بعصبية " أنت لا تعرفُ أي شيءٍ عن القضاء هنا...أنت لن تفهم أبدًا ما ستُعانيه حتى لو انصفها القضاء...فأنت رجل، لم تكن يوما مُضطرًّا أن تشرح حالتك للناس..."
"أمي..." تساءل بعدم فهم..تنفست والدته بعمقٍ لتُغلق عيونها تسمحُ لهواء البحر ان يغسل رئتيها ويبث الهدوء لروحها، فتحتهما مجددا كانت تحتلهما نظرة الألم والغضب.
" أنا أيضًا توسلتُ أحدهم يومًا أن يُنجدني..." الصمت ساد...هو يُحدقُ في جانب ملامح والدته التي تحولت لبرودٍ لا تعكسه نظرتها..." أنا أيضا توسلتُ أحدهم يومًا ليُنجدني..." أعادت بنفس الهمس، وكأن بالتكرار ستُقنعه بتلك الحاجة التي عاشتها يومًا لتستنجد أحدهم ليُنقذها...النار استعرت داخله وهو يتخيلها في وضعٍ التوسل...لم يستطع أن يأتي ببنت شفة، حتى أنه يخشى أن يعود للوراء ليستلقي وقد تيبس جسده بجلسته الغير سوية...أراد أن يعود ليسند جسده فهو متأكد أن ما ستنبسُ به والدته أقسى من أن يتحمل " أنتَ لم تعرف يومًا القصة الكاملة لزواجي من والدك، ولا قصتي مع سعيد...ولماذا للآن يكرهني!"
الصدمة شلته، بالفعل هو لا يعلمُ لما والدته تخلت عن ابنها، ولم يعلم يوما قصة زواج أمه بأبيه رغم اختلافهما...فأمه مسلمة تقوم بأغلبِ فروضها...بينما لم يرَ يوما والده يُصلي.
كانا مُختلفين...من ثقافتين مختلفين، هي ولدت في مجتمعٍ الدين هو مسيرها وهو من عائلةٍ أغلبها لا يؤمن بالدين.
في اللحظة التي أغلقت بها عيونها...كان يعلمُ أن شيئا بشعا سيُطلقُ سراحه...أراد أن يهربُ، لكنه لم يستطع...بل أرجع جسده للوراء، يستندُ بظهره للكرسي...مُرخيا جسده...لتنطق والدته:
"  منذ اللحظة التي وعيتُ بها، أدركتُ أنها غلطة ان تولد "أنثى" في محيطٍ لا يرى الأنثى إلا مصدر ترفيهٍ، كنتُ اعلمُ بخفايا عمل العائلة، كنتُ أُدركُ انها تغرقُ في الظلام حتى لم يعدُ النور يجدُ منفذا نحوها...المرأة في نظرهم تختزلُ في الشهوة، ونظرتهم نحوي لم تكن تختلفُ عن نظرتهم لأي امرأة أخرى، أو ربما كانوا يرونني ككل الفتيات اللاتي يرغمنهن على الرذيلة لجني المال...وفعلا لم أختلف عن من اجبرن ليحترفن الدعارة، أرغموني على الزواج من حليفهم كي أرفه عن لياليه، كان رجل سلطة معروف بجبروته، الكل يهابه حتى أخي سعيد، أوامره لم تكن لتُعاد مرتين...نُقطة ضعفه أنه بدون أصلٍ، فكنتُ وسيلته لينتمي لعائلة، وهو وسيلة عائلتي لمزيدٍ من الطغيان، كان سكيرا حقيرا، مدمن نساء...لم يكن يؤلمني أن يأتي بهن لمنزلي، كنتُ أتمنى موته في كل لحظة وثانية حتى أنني كنتُ أتخيلُ نفسي أقتله مرات ومراتٍ..." فجأة وسط تلك الملامح الغاضبة انبثقت ابتسامة ناعمة، سرعان ما اختفت كما ظهرت " التقيتُ بألبرت في حفلة أقامها زوجي بمناسبة نجاح صفقة مهمة...صفقة تُخفي اسفلها الكثير من تجارة الأسلحة والرقيق..." ملامحها زادت قساوة وهي تستطرد " لم أصدق أذناي وألبرت يُجاملُ زوجي الفاقد لصوابه من السكر، بجمال زوجته...ليعرضني عليه، بكل بساطة عرضني على شريكه، دفعني نحوه ومازلتُ أتذكر كلماته " اجعليه سعيدا فهو صيدٌ ثمين سيشكركِ عليه أخاكِ"، ما زلتُ أتذكر الإرتباك في ملامحِ ألبرت وجسدي الهزيل يصطدمُ بجسده بينما زوجي يدفعني نحوه...ذلك الإرتباك هو ما جعلني أتشجع وأرافقه للغرفة...لأترجاه أن يُساعدني على الهرب، وهو لم يتوانى عن ذلك..."
"وسعيد..." همس عامر وقد جف حلقه من كم المعلومات التي صفعته بها والدته...نظرت باتجاهه، ملامحها كانت تحملُ التقزز والقرف.
" كنتُ اكرهه لأنه جزءٌ منه...حتى أنني لم أحمله إلا قليلا...كنتُ أرسله للمزرعة. والدي كان سعيدًا بصحبته خصوصا بعد أن فقد القدرة على المشي..." اعادت نظراتها للأمام تُكملُ بحرقة " هربت...لم يوقفني أي شيء عن ذلك، سعيد...تركته وأنا موقنة  انني أتخلص من آخر شيءٍ يربطني بهذه العائلة التي كرهتها حتى نخر كرهها ذاتي...في اليوم الذي صادفتُ به والدك توسلته أن يُساعدني...ففعل....بكل بساطة ساعدني لأهرب!...هذا جعلني أستعيدُ القليل من آدميتي...والدك اعتنى بي، واليومُ الذي سمعتُ به عن انتحار زوجي كان أسعدَ يومٍ في حياتي ارتديتُ به أجمل فساتيني في ذلك اليوم ضحكتُ حتى دمعت عيناي رقصت حتى تعبت قدماي...رغم أنني أُدركُ أنه لم ينتحر بل اغتيل...فهو جبانٌ على أن يقتل نفسه...بعد ذلك بأشهر تزوجت والدك ليحميني أكثر...كنتُ اعلمَ ان عائلتي لن تستطيعَ أن تقترب منه لأنه كان في اعتقادهم  أسوأ منهم...بزواجي منه كنتُ أستعيدُ حريتي"
" وهل كان..." سألها بهدوء لتنظر إليه وتبتسمَ وهي تتذكر ألبرت
" لم أكن لأعيش معه لأكثر ثلاثين سنة لو كان  خلاف ذلك" لم تكن تُدركُ أنها تشتاق إليه إلا الآن...وهي تنظر لصورته الصغيرة أمامه " أنا أشتاق إليه"
همست بحزنٍ...عيونها تلبدت بدموعٍ ليُسرع ابنها يحضنها بخفة...يُواسيها...وبينما تُغرقُ رأسها في حضنه كانت تترجاه مرة أخرى " أرجوك ابني ساعدها...ساعدها وابنها"
فالوجع الأكبر الذي فاق كل وجعٍ عاشته...وجع فراق ابنها الذي استيقظت فجأة لتجده...أصبحَ وشما لروحها!
في دقائق كانت نائمة في حضنه...حملها برقة باتجاه غرفتها، وعندما دثرها أمسكت بيده " اتصل بأخيك بني...أرجوك" قارنت همستها برفعُ كفه تُقبلها!

جرح وشم الروح! ملاك علي.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن