★1 زائر الليل ★

2.4K 33 1
                                    


1- الفصل الأول

أغلقت رينا باب الغرفة بهدوء على ولدها , وظلت دقائق مستندة على الحائط منهكة القوى , داني أصيب فجأة بأنفلوانزا حادة ألزمته الفراش مما تطلّب من والدته أن تبقى بقربه لتعتني به , دون أن يقيم هو وزنا للتعب العصبي الذي يسببه لها بمتطلباته , ولكن كيف يمكن أن نلومه وهو في مثل هذه السن التي لم تتجاوز الأربع سنوات؟
توجهت رينا الى المطبخ لتحضر لنفسها فنجانا من القهوة ولكنها ما كادت تشعل النار حتى سمعت صوت جرس الباب الخارجي.
" أفي هذه الساعة؟".
هذا ما قالته لنفسها بغيظ وهي تفكر بداني الذي لم يكد ينام ألا منذ خمس دقائق.
ومع أن الوقت لم يكن متأخرا , فالساعة على الجدار تشير الى الثامنة والنصف , ذهبت رينا لتفتح الباب وهي تعرف مسبقا من هو الزائر , رجل طويل شديد السمرة , أستقبلته بجفاء وهي تنظر الى شعره المبلل الذي تنساب منه قطرات الماء على سترته الجلدية , أبتسم أبتسامة خفيفة وهو يرفع حاجبيه متسائلا ثم دخل , وبحركة آلية أنزوت رينا أمام هذا الهيكل الضخم للوجان ثورن , أنه دائما يعطيها أنطباعا بضيق المكان , وكأن المنزل أصغر من أن يسع شخصا بمثل هذه الضخامة.
سألها:
" كيف حالك؟".
أجابت وهي تشيح عنه بعينيها:
" على أحسن ما يرام".
النور الشديد الذي يضيء المدخل أبرز تجويف عينيها ونتوء خديها , ولم يخف التعب الواضح على وجهها ع نظرات لوجان المتفحصة.
تبعها الى الصالون حيث أنارت مصباحا جانبيا أقل حدة في الأضاءة.
قالت:
" تفضا أجلس يا لوجان".
لكنه تجاهل دعوتها وشدها من ذراعها فأرغمها أن تستدير بأتجاه الضوء , ثم أمسك ذقنها بيده وتفحصها بأنتباه شديد .
سأل مستجوبا:
" ماذا حدث؟".
أجابت وهي تتخلص من قبضته بسخط:
" لا شيء , بكل بساطة متعبة قليلا , وداني كان مريضا".
" يبدو أنك مرهقة بشكل كبير".
قالها وهو ما زال يتفحصها بعناية شديدة".
قالت بمرارة:
" شكرا".
" سامحيني لهذه الصراحة. ولكن هذه هي الحقيقة , ماذا حدث ادان أذن؟".
لوجان لا ينادي الطفل داننيل بداني , وهذا ما يزعج رينا كثيرا , لكنها من ناحية أخرى , تجد أن سلوك لوجان في أغلب الأحيان مثير".
" أصابته أنفلوانزا , وأرتفعت حرارته كثيرا".
" بالتأكيد أنتقلت العدوى اليك؟".
أجابت وهي تجلس على أريكة مخملية ذات لون أزرق جميل:
" قليلا , ولكنني شفيت الآن".
دفع لوجان شعره المبلل الى الخلف ليكشف عن جبهة عريضة برونزية , ثم قال بشيء من السخرية:
" ولكن من ينظر اليك لا يشعر بذلك , هل أستدعيت الطبيب؟".
" نعم".
قالتها بغيظ رغم الجهد الذي تبذله لتخفي الأنزعاج البادي على محياها:
" هل تريد فنجانا من القهوة؟".
" لا , ماذا بك الآن؟".
" لا شيء.......".
" هيا رينا , أفصحي عن نفسك , أنك تواجهين اليّ نظرات كالصاعقة , وهذا ليس بدون سبب , على ما أعتقد؟".
" أنت تعاملني وكأنني أم قاسية , أليس كذلك؟".
قالتها والغضب يلتمع في عينيها الخضراوين :
" لقد أعتنيت بأبني كل العناية , ولا يمكن ألا أن أكون كذلك , وما نظنه........".
" أرجوك يا رينا ".
قاطعها بحدة :
" لا أقصد أن أقول ذلك , هذا مخجل".
" حسنا , كيف يمكن أذن أن تفسر أستجواباتك هذه؟".
بذل جهدا كبيرا ليسيطر على أنفعالاته , ثم أجاب بهدوء:
" لم أقلق من أجل دان , وأنما من أجلك , وأنت تعرفين هذا تماما , لأنك لا تعتنين بنفسك بما فيه الكفاية".
نظرت الى وجهه المتجهم , ذقن مربعة , أنف مستقيم , تقاسيم وجهه توحي بالرجولة , شفاه ممتلئة تضفي لمسة حسية , وتحت الحواجب المقطبة عينان زرقاوان تقدحان غضبا باردا وثاقبا.
تخضبت وجنتا رينا من شدة أنفعالها.
" أعذرني".
قالتها بصوت مضطرب , ثم شحب لونها وأرتجفت , أضافت دون أن تنظر اليه:
" بحق السماء يا لوجان , أجلس".
وعلى عكس ما توقعت رينا , بدل من أن يجلس على أحدى الأرائك , جلس الى جانبها ومال قليلا بأتجاهها مستندا بكوعه عل مسند الأريكة.
هذه الحركة أحرجت رينا , فأنتصبت في جلستها , داعب خدها بأصابعه وتمتم:
" لقد خضعت أعصابك لتجربة قاسية , أليس كذلك؟ أنا آسف ؟لأنني لم أخفف عنك ,وذلك بالوقوف الى جانبك".
وشكل غير ملحوظ , أبعدت رينا رأسها عن ملامسته.
" لقد تدبرت أمري لوحدي بشكل جيد".
أجابت وهي تهز كتفيها:
" وفي الواقع ليس عليك أن تتحمل أتجاهنا مسؤولية كبيرة الى هذا الحد , وتيري لم يكن يريد تماما..........."
. قاطعها لوجان:
" تيري عبّر بوضوح عن رغباته الأخيرة وأنا لا أعتبر أن هذا عبء ثقيل علي , وبالتالي فأنا أنفذ هذه الرغبة بسرور كبير ".
راقبته رينا بحذر شديد محاولة أن تستكشف التغضن شبه الساخر على فمه.
" أنت تضحي بالكثير من وقتك من أجلنا ,ولن أنسى ذلك".
" وبدون شك , لي أسبابي".
أجاب بأبتسامة ذات لغز غريب :
" وفي كل الأحوال كان تيري سيفعل نفس الشيء لو كان مكاني ".
" ولكنك لست متزوجا".
" صحيح , لقد كان تيري أكثر حظا من هذه الناحية".
وفي الحقيقة لقد كان تيري قد عاش بضع سنوات من السعادة مع رينا , كان يعشق زوجته وأبنه الذي حقق غريزته الأبوية , ولكن لسوء الحظ لم تكتمل هذه السعادة , تحطمت طائرته السياحية في العام الماضي , ومات بعد أن قضى بضعة أيام في المستشفى أثر أصابته بجروح بليغة كانت ستجعله معوقا بقية حياته لو عاش.
" ما كان سيحتمل أن يعيش معوقا على كرسي متحرك ".
قال لوجان بهدوء وكأنه يقرأ أفكار رينا.
صحيح, هذا الرجل المغامر , المهووس بالسرعة , الشغوف بالمخاطر والحركة , لن يقبل أبدا أن يعيش كالميت بين الأحياء , لقد قام بحركات بهلوانية عندما أصيب بالحادث , وهبط مندفعا ليمر فوق خطوط الكهرباء ذات التوتر العالي , ومع أنه أستطاع أن ينجح مرات عديدة , فأن الحادث كان حتميا في ذلك اليوم , لم يكن لوجان لطيفا مع صديقه ذلك اليوم , وأنما كان في حالة من الأنفعال الجنوني , ووصف تيري بكل النعوت , يا له من أستهتار أن نلعب مع الموت بهذا الشكل من أجل لذة وحيدة , ألا وهي أدهاش العالم بأقتحام المخاطر التي لا فائدة منها .
وجد نفسه بجانب رينا أثناء هذا الكابوس المرعب , شاهدا الطائرة وهي تسقط على الأرض وهما عاجزتن ثم ساعدا رجال الأسعاف في أنقاذ الجسم المشوّه من بين الحطام , وهكذا بدأ الأنتظار الطويل في المستشفى , وكفّ لوجان عن أن يلعن غباء تيري بعد أن فهم بأن موقفه سيكون غير لائق في عيني رينا.
" يا ألهي , سامحيني يا رينا".
هذا ما صرّح به بصوت مفعم بالحزن , لقد تألم هو أيضا بشكل كبير وكانت ردة فعله أتجاه كل هذا الألم هو الجنون.
" لا تعتذر يا لوجان( صرخت بأندفاع) أشعر تماما بنفس الشيء".
" نعم".
أضاف هذه الكلمة فقط وهو ينظر في أعماق عينيها الحزينتين.
كان هذا الموقف الوحيد الذي رأته فيه وهو على وشك أن يفقد السيطرة على أنفعالاته , وهذه هي المرة الوحيدة التي شعرت بقربها منه بشكل حقيقي , تيري ولوجان أصدقاء طفولة , تيري كان متعلقا كثيرا بذلك الطفل البائس الذي يدرس معه ولكن في القسم الداخلي بسبب طلاق والديه , وعندما أصبحت رينا زوجة تيري كيمبل قبلت بدون نقاش دخول شخصية لوجان في حياتها , كان الصديقان متشاركان في تأسيس شركة متخصصة في تصليح الطائرات السياحية , وبالتالي واضعين نصب أعينهما أن يزوداها بآليات ومعدات تغطي حاجات السوق المحلية والأجنبية.
ولم تتأخر رينا في معرفة حقيقة التكريس الذي يكنّه خطيبها لصديقه لوجان , أنه يعتبره كبطل منذ ذلك اليوم الذي أخذه فيه تحت حمايته ودافع عنه ضد مجموعة حاولت أن تعتدي عليه في باحة المدرسة , وهذه الحركة الأريحية من رفيقه الأكبر حجما والأقوى , كلفته ألا ينسى معروفه الى الأبد.
ولدى خطوبتهما , كان لوجان يقيم في أوستراليا من أجل أعمال تتعلق بالشركة , كان مسؤولا عن أيجاد سوق لتصريف النماذج الأولية التي تعتبر آخر األأبتكارات الحديثة , وأصر تيري ألا يحدد موعد الزواج ألا بعد عودة صديقه.
ولم يكن هناك سبب آخر يمكن أن يجعلهما ينتظران , أنهما متحابان , تيري لم تعد له أية صلة عائلية يتمسك بها , أما رينا فكانت فقدت والدتها وهي لم تزل في الثانية من عمرها , ثم تزوج والدها من أمرأة أخرى وأنجب منها ثلاثة أولاد , كانت تعيش معهم في ساوث آيلاند وشيئا فشيئا بدأ أهتمام أبيها بها يقل , وفي ظل هذا العجز المشترك للعلاقات العائلية أقسم تيري ورينا ألا يخلقا أبدا موقفا مشابها , لا بل سيبنيان زواجا متينا مدى الحياة ويرعيان أولادهما تحت ظلال الدفء والحرارة لعلاقتهما الوطيدة.
قصتهما بدأت بشكل جميل حتى ذلك الحادث المؤلم الذي وضع حدا لهذه السعادة , ومنذ ذلك اليوم ورينا تكافح بصعوبة شديدة ذلك الحقد والغضب الذي يهددها بالقسوة , كان تيري كل شيء بالنسبة اليها ,ومع ذلك وبنقاء طفولي , فأن طيشهوتعطشه للأعمال البطولية والمفاخر أفسد كل شيء.
ضابط المباحث كان قاسيا في أحكامه على لامبالاة القبطان , ولحسن الحظ فهو لم يغامر بحياة أي راكب , ولكن أي جنون أن ينهمك في مثل هذه التجارب والمناورات المحفوفة بالمخاطر ! وفي هذه اللحظة أغلقت رينا عينيها وكأنه كان بودها أن تشارك تيري مصيره , ولكم تأسفت على أنها لم تمت معه.
ضغط لوجان يديه المعقودتين على ركبتيه بأنفعال , وبقي هكذا حتى نهاية الحديث , وبفضله تمكنت رينا من السيطرة على أحزانها , ثم ألا يجب أن تفكر بأبنها داني ؟ أنه في الثانية والنصف من عمره وما يزال بحاجة الى حب كبير ورعاية كبيرة , عملت رينا على أن ترعاه على أحسن وجه لتعوضه فقدان والده , وأقسمت ألا تتخلى عنه , وألا تكون أنانية بأن تستسلم لأحزانها , لا بل أن تبذل ما بوسعها لتكرس نفسها تماما لأسعاد داني , ولا يجب في أي حال من الأحوال أن يتأذى من وفاة والده.
كان لوجان أهلا لعرفان الجميل , ففي الأيام الحالكة التي أعقبتالدفن ورغم حزنه الشخصي والعميق لم يوفر وقته وطاقته لنجدة رينا , وسخّر نفسه بالتمام والكمال الى أقصى الحدود وظل قويا ثابتا كالصخرة , وفي كل مرة تحاول رينا أن تشكره يجيب ببساطة :
" لقد وعدت تيري أن أسهر عليك وعلى دان يا رينا , وهذا طبيعي جدا".
ومع ذلك فبعد مرور الصدمة الأولية , أرادت رينا أن تحقق أستقلاليتها , أنها لم تعتمد من قبل طيلة حياتها على شخص بهذا الشكل , وعن قريب ستولد لديها الرغبة في التحرر من هذا الأهتمام اللطيف ولكن القسري من قبل لوجان , من المؤكد أنه خفف عنها كثيرا , وكانت ترحب بحضوره ومساعدته ولكن آن الأوان بالنسبة اليها كما بالنسبة الى أبنها أن يتوصلا الى تحقيق الأستقلال الذاتي والشخصي.
وعندما قررت أن تعتمد على نفسها في تدبير الأمور , لاحظ لوجان ذلك وقال بأبتسامة باهتة بعض الشيء:
" أنني موافق , أنا أفهمك تماما , ولكن سأتابع السهر عليكما أنتما الأثنين , هذه أرادة تيري , فأذا ما شعرت بالحاجة الي , أرجو ألا تترددي في الأتصال بي في أي وقت وفي أية ساعة".
" شكرا , ولكن في الحقيقة تيري لم يكن يريد أن يحمّلك وزرنا مدى الحياة".

✼نصف الحقيقة✼ - 🌱دافني كلير🌱- روايات عبير القديمة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن