جفّ القلم

16 5 4
                                    


تشارف الشمس على الغروب بينما يُحدق في النافذة نحو السماء في صمت، وفجأة أمسك مذكرته التي هجرها منذ أشهر، مسح سطحها الجلدي المتين، وامسك بالقلم وهو يتأمله بحنين، والقلم قد تاق إلى أنامل صديقه واهتمامه به، أخذ يكتب بعد انقطاع
"عندما اردت أن اكتب وهرعت إلى جهازي اللوحي، لم تأخذني الحيرة سوى بضع ثواني حتى وجدت اني اريد أن اكتب رسالة انتحاري، ليس وكأني فكرت بالأمر من قبل ولكنه اول ما خطر ببالي عندما اردت أن اكتب، وكأنه الشيء الشاعري الوحيد الذي يمنحني شعوراً حقيقياً في حين أن قلبي جامد كلوحة ضباب زاخرة باللون الرمادي، أجلس الان مقابل جهازي وفي أذني أنغام الموسيقى التي تعزف أوتار قلبي وتحركها، بينما ترن الكلمات في أذني لتحاكي الحركات الثقيلة لمشاعري، هكذا أستطيع قول شيء لهذه الملاحظة هكذا أتمكن من الكتابة.

لست شخصاً يحظى بالكثير من العلاقات العميقة، كلهم معارف سطحية لا تكاد تقترب من كونها علاقة، إذ أنني الشخص الذي يبادر بالابتعاد ودفعها نحو السطح، لا احب اقتراب أحد مني؛ فبشكل غير واعٍ أنا أبعدهم!

لذا لن تكون رسالة مخضبة بالمشاعر أو الدراما التراجيدية على أي حال، ما أدركته خلال أيام تنفسي أن النضج مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاكتئاب، لا يمكنني شرح ذلك ولكني أُلخصه في كونه يعري البشاعة التي لا ينفك الناس السعداء بتجاهلها، والعيش تحت أغطية أعينهم المسدلة حيث تعزلهم عن رؤية ما دون الجزء الجيد والملون من الحياة كلها، نحن نكتئب؛ لأننا رأينا الحقيقة ولم نقبل بها.

استطعت أن اكتئب بينما اضحك عندما التقي بالاشخاص من حولي، استطعت أن اكتئب بينما احاضر التعساء عن مدى روعة الحياة وفرصها المتاحة امامهم، استطعت أن اكتئب بينما امد يدي لغريق آخر معي في نفس الدوامة، المضحك أنني كنت تائهاً بالفعل عندما ارشدت التائهين إلى ذواتهم، كنت ميتاً بينما أردت باستماتة أن أعيد أحدهم إلى الحياة.

انطفئت وكل رغبتي ألا أرى شخصاً منطفئ غيري، تفهمت كون الشخص يائساً وحزيناً فاقداً لهويته التي يعتز بها، وأردت انقاذه، كنت اسرع للحديث مع أي شخص حتى عندما لا أعرفه فقط لأشعره بأن هناك من يفهمه، لم يكن الامر وكأنني غيرت شيئاً ولكن فكرة كوني قد أُخفف عنه كانت كافية، حتى بلغ بي الأمر مبلغه ونال مني العجز أمامهم ولم يعد بإمكاني حتى المحاولة لفعل شيء لأي أحد.

صديقي الوحيد تحمل الشخص القبيح الذي صرت عليه، صديقي الوحيد اقترب مني في الوقت الذي لم أشعر به حتى، ولكنه كان هناك من أجلي.

أقف على مشارف الهاوية غير مبالي، أنا فقط احدق بالمنظر.

لم تكن الحياة سيئة بل مستنزفة، استنزفت آخر قطعة من روحي، وأظهرت جانبها الجيد في نفاق  وهي تعلم أنه ما عاد بوسعي عيش هذا الجزء الجيد بعد الان، أنهت رحلتي وادّعت أن بإمكاني متابعة الطريق... كم هي مخادعة.

عوضاً عن كتابة القصص جعلتني أكتب مأساةً لا يراها أحد، عوضاً عن أن تُعطيني سبب تركتني ألقي عليها اللوم بينما تجعل العطل بي أنا، كي تبدو معاناتي زائفة.

لا أودع أحداً ولا أرغب أن أترك أثراً ليس الأمر مرعباً أن ترحل كأنك لم توجد من قبل ملايين غيرنا فعلوا ذلك؛ لذا لا بأس."

قبل أن يغلق غطاء قلمه عاد يكتب

"شكرا لعائلتي التي لم تعلم شيئاً بأمر معاناتي..."

ترك غطاء القلم مفتوحاً هذه المرة وأغلق مذكرته،
جمع بطّاته وأوهم شقيقه الاصغر بأنه ذاهب إلى الاستحمام.

جفّ القلم!
وحان موعد العشاء، ولم يغادر ذلك الحوض بنفسه مجدداً.

هلوسةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن