FLAV 1

1.4K 23 1
                                    

تنَاثر الدخانُ المسمومُ في تِلكَ الغرفةِ المُظلمة، عدَا عن شُعاع بسيطٍ تغلّب على دِفاعِ حديدِ النافِذة لينبثق في رُكنِ الغُرفة.

لمْ تكن غُرفةً حتى، كانت ثلاثُ جُدران مُتصلة ببعضها، أما مَكانُ الرابعُ مفقودُ ولم يتبقّى لأثرهِ سِوى الرُكام.
ذلك لم يمنعِ الظلامَ من تغليف الغرفة القابِعةِ فِي مَبنى قدِيمٍ ارتصت دَاخله مجموعَة من غُرفٍ مِثلها، امتَنعت الأقدامُ البشريّة عن المشيِ في أرضياتِها منذُ أعوام.

عدَا عَن ذلك الشّابِ الذي انهَى لُفافة سجائرِه الثالِثة و يغرُق في دخانِها المسمومِ بمُتعةٍ أحبهَا.

أعاد ظهَرهُ متكًأ على ظهرِ الكرسيّ الخشبيّ الذي أعاده للخَلف على الحائِط الغَبِر فيستقبل وجهه سَقف الغُرفةِ العائمَة بالأدخِنةِ الرمَادية.

استَقر جسدَهُ على الكرسيّ بسُكون، بينما تتدلى ذراعه اليُمنى فتتعلقُ في الهَواء، ذراعُه البيضاءَ الناصِعة الصُلبة ذات العروقِ البارِزة الممتدة على طولها كأنهارٍ برزَت في صحراءَ جدبَاء..

....

تُمسِكُ أنامِله الطويلة باللُفافةِ المتبقِي من أثرِها وهجٌ أحمَر خافِت، يطرقُ بسبابَته عليها بِخفة فيسقطُ منها الرّماد.

عطَف على السّجارة أخيرًا وألقى بها أرضًا لتنضم لرفيقاتِها اللاتي بُسِطنَ كفراشٍ على كامِل الأرضِ.

مرّرَ لسانُه على شفتيهِ ببطء، تذوّق نكهتهُ المُفضلة برويّة وابتسَم بهدوء..

أُغرِم مُنذ سَنتينِ بنَكهة السّجائِر، إذ أنّ لكل إنسان مَيلٌ تذوقيّ خاصٌ كما قِيلَ في دراسة أجرتهَا إحدَى الجامِعاتِ الأمِيركية، فهوَ وجدَ ذوقَه في تَبغِ تِلك اللُفافاتِ الصغِيرة فأصبَح مُدمنًا عليها.

نَهضَ عنِ الكرسيّ أخيرًا ليكشف السّتارَ عن طولهِ الفارعِ، مشَى ناحِية ضوءِ الشمسِ الخفيِفِ فاحتضنَ الضوء صدرَه العاريَ ذو العضلاتِ برحَابة.

رفع ذراعيهِ فمررَ أنامِلهُ على شَعرِهِ العسليّ لتغرقَ بينَ خصيلاته الناعِمة الكثِيفة الرطبة بقطراتِ العرقِ التي تشكّلت نتيجَة الحرارةِ المُنبعِثة في المكَان، ثم أنزلَ ذراعيهِ لتسقط تِلك الخصيلاتُ حول جبينهِ بدلال.

ابتعدَ عن الجانب المُضيئ ناحيةَ البابِ الكرسيّ وأخُذ قميصهُ الأسودَ و ارتداهُ بكسَل دونَ أن يُغلِق أزراره.

تحرّكت قدميهِ خارجًا من الغُرفة بين عُتمةِ المَبنَى نحوَ البَوابةِ الضخمَة، التي كانت سببًا في منعِ الضوءِ من الانبثاقِ للداخِل بينَ أركانها لأعوام.

استنشَقَ هواء الخارجِ المُختلط برائحة التُرابِ المحيطِ بالمبنَى، مضَى باتجاه الشَارعِ العَام وهو يتلاعبُ بعُلبة السّجائِر بين كَفه.

العُلبة التّي حوَت نكهته المُميّزة، والتي ظنّ أنهَا الوحِيدة، غير عالِمٍ بالنكهَة التي ستدخُل حيَاتهُ على هيأةِ إنسَان.

في قلب أثِـيناحيث تعيش القصص. اكتشف الآن