علّق بصره على الأغصان المتشابكة التي تتسلّق الفضاء المملوء بالسحب الغفيرة. وأخذت خيالاته اللا مرئية ترسم على صفحة السماء الناصعةِ ألحانًا كان قد سمعها في زمنٍ سحيق لا تستجلب ذاكرتُه تفاصيلَه.
«فقط لو تسافر الأصوات» خرج صوته حالمًا «فقط لو بمقدورنا حفظها في الصَّدَف، وتحت الحجارة. لو أنها ثابتة، لا تقيّدها سيرورة الزّمان الحتميّة، فلا تضطر للضياع في أعماق الماضي، ولا أن تنطوي عليها أبوابه الغليظة، ولا أن تنكمش فيه حجرات النسيان حدّ خنقها، فلا يبقى هنالك مساحاتٌ تتنتاقل فيها صداها حتى أعتاب الذاكرة.»
استكنّ منصتًا لتلك الموسيقا الخفيّة التي تخلقها الطبيعة من حوله، وشعر بالحنينِ الغامر لموطنه الذي يقبع في بقاعٍ مجهولة لا علم له في أي يابسةٍ تنبت جذورها، ولا أي الأرواح تسكن مناشئها. لكنّه سمع مجددًا تلك الحناجر العهيدة، تأتي من ذلك الموطن، تجلس على أكناف النوافذ، وتغنّي مع لحنٍ تعزفه الأرض. بدا كما لو أنّه قطعةٌ واحدة متجزئة في كياناتٍ متباعثة على سائر الأرجاء، يصنع الحياة، دون أن تطوله يد إنسي، منه، وإليه.
تمتم لنفسه تحت سطوة الموسيقا المسافرة بين مسمعيه حتى قلبه «أتمنى لو أستطيع الاحتفاظ بالموسيقا وسماعها في خلوتي، وحدي، بعيدًا عن أحد.» ولمّا فتح عينيه المسبَلتين، تحدّر دمعه تباعًا على صدغيه، مكملًا بصوتٍ خفيتٍ، سعيد، مغايرٍ لدمعه «فأشعر أنّ كلّ تلك الألحان تعزف لأجلي، لأجلي فقط».