نزلت ليليث من عمق القطار الذي سحبها من أول زارلويس حتى نهايتها، وغابت في الطريق الباهت الذي تنتشر فيه الأضواء كرذاذ المطر. أخذت على عاتقها محاولة تبرير غيابها، غير أنها في سريرة نفسها كانت تدرك أن لا قيمة لتبريرها، ولن تستجيب إلكه والدتها بعذرٍ أو بعدمه.
على زاوية شارع درايتسينتار يانيوار انسكبت أضواء المكتبة الصفراء على بطن الشارع المسفوح بالمطر، وأعطت ليليث إحساسًا ناعمًا بالدفء من بعيد. ولما وصلت عتبتها، ألقت نظرةً على الاسم المحفور على الواجهة، مكتبة فيرديناند هاينتس فرايتاغ، وانزلقت عيناها على الزجاج الأمامي الذي تعلّقت عليه ورقة كُتب عليها بخط اليد «الدين ممنوع» وورقة أخرى على الجانب الآخر «ممنوع دخول المشردين والكلاب والمتسولين وأولاد الزنا»، وباقي المعلّقات كانت إعلانات أحدها لحفل أوبرا يقام في معرض دير شتيمِه وسط المدينة في زاربروكن، حيث لا يحضره سوى الأشخاص الذين لا يعرفون أين يذهبون ببقية أموالهم المحشورة في جيوبهم، وبعض الذكور المسعورين الذين لا يملكون سوى أن يتفرّسوا المغنية ونهديها الذين ترسم على أحدهما شامةً مزيفة طوال الحفلة.
قاربت جفنيها من بعضهما وأطبقت كفيها حول صدغيها في محاولةٍ لالتقاط صورةٍ أوضح للمكان من الداخل، فقد كان الإنارة الداخلية بالكاد تضيء البقعة المحيطة بها. استطاعت رؤية الرفوف الغاصّة بالكتب والتي تسير على طول وعرض الحجرة، القناديل الزيتية المسوَدّة من العنق تتأرجح على الزوايا، وقبالتها مباشرة تستلقي مصطبة من خشب الصنوبر الخام، كثيرة الأخاديد كوجهٍ عجوز.
انبثقت من عتمةِ المكان عينانِ تلمعان أحدّ من النصل، تمامًا على الجانب الآخر من الزجاج، حيثُ تنظر ليليث، ولم يفصلها عن تلك العينين سوى الحاجز الزجاجي المرشوق بالمطر. فارتعدت وتخشّبت موضعها كما لو أنّ النظرات طعنتها في نخاعها.
شُرّع الباب، وظهر من عمق العتمة رجلٌ كبير السن يميل جذعُه كشجرة هَرِمة «ما الذي تفعلينه هنا؟» صدر صوته كأزيزٍ مخنوق «هل تبحثين عن شيء للسرقة؟ أم أحدٍ لتسحريه؟» ساخرًا من ثيابها السوداء القوطية قال «أعلّق صليبًا يكبر رأسكِ ضعفين، يمكنه إرسالكِ أنتِ وأمثالكِ إلى جهنم دفعةً واحدة».
«خذ نفسًا بحق السماء!» أجابت ليليث وهي تنظره شَزرًا «أنا أبحث عن الهير...» أمالت جسدها للوراء تتفرّس اسم المكتبة في حرصٍ «الهير فرايتاغ فيرديناند».
«لقد مات» بنبرةٍ أبرد من الدماء في عروق ليليث، أجاب.
«مات؟» ردّدت متعجبةً دون أن تنتظر جوابًا فعليًا.
«لقد مات! ألا تقرأين الجرائد؟ لا تقولي لي، جيلكم هذا أغبى من الحمير، أنتم لا تصلحون سوى للتفاهات والخراء. لا أحد غيركم أوقع سوق هذه المكتبة فعقولكم أصغر من أن تستوعب الكلمات.»
نظرته ليليث بجفونٍ مشرّعة حتى حاجبيها بما ينمّ عن ريبتها، للكنته الألمانية البافارية راءٌ حادة نَشِزة تصمّ أذنيها، وله جسد غضٌّ مضمورٌ على بعضه أسفل بدلةٍ زيتية تتسع لجسدين آخرين فيها.
«ما الذي تفعله طفلة مثلكِ في هذا الوقت خارجًا؟»
«أخبرتك، أنا أبحث عن الهير فرايتاغ.» نبَست في حُنُق مشدّدةً على الحروف عقب صراعٍ حاد كيلا تبصق في وجهه وتشتمه عرَضًا.
«من تظنينني؟ خليفة المسيح الذي سيحييه من قبره لأجلكِ؟ الشرطة تنتشر في المكان أكثر من البعوض، أقوم بتقديم بلاغ بإزعاجكِ لي ويسحبونكِ من شعركِ في دقيقة.»
حامت في محاجر ليليث نظرات خيبة وغضب، وآزرت التجلّد بغية وصول مسعاها «كلا، كلا، أنت لا تفهمني يا هير... أيًا يكن. أتعرف أحدًا من أقرباء فرايتاغ المتوفى يمكنني التواصل معه؟»
«أنتِ تدبقين بالشخص أشدّ من صمغ الخشب، يا للقرف!» تمتم في خفوضٍ وصل مسمعيها «ألا يمكنكِ قراءة أن المكتبة مقفلة في هذا الوقت؟» أشار حيثُ اللافتة على الباب والتي تشير في جلاء تامّ «مفتوح» فقلبها للوجه الآخر على مرأى منها «مقفل»، مستَتليًا «لا بدّ وأنّكِ من تحتاجين هذه النظارة التي فصّلتها عند محل الهير شرودر في آخر الشارع. لقد كلّفتني مئة يورو، أتفهمين؟ مئة يورو أدفعها كي أرى وجهكِ الشاحب الذي يصيبني بالإعياء.»
فغرت ليليث فاهها وتضرّج وجهها حمرةً حتى ناصيتها، لكنّه أخرسها بأن رفع صوته أكثر «كلا، لن أعطيكِ إياها حتى لو حلمتِ بها في أهنأ أحلامكِ، الأطفال لا يصلحون لحمل أشياء باهظة فهم ملاعين ومضيعة للنقود».
اغتاظت، وصوّبت سبّابته قرب أنفه الطويل المَلوِيّ الذي لا يُرى شيءٌ بوضوحٍ سواه في غمرة العتمة من ورائه «أيها العجوز القذر طويل اللسان، لا وقت لي...»
«أجل، أجل. لا وقت لديكِ. هراء. تمتلكين وقتًا تعيشين فيه الحياة مرّتين بدل الواحدة. والآن اغربي عن وجهي فأنا أشارف على الموت وإقامتي في الدنيا أقصر من أن أضيّعها مع طفلة تبدو كالساحرات.» خبط الباب في وجهها بينما تتعلّق يدها في الفضاء كجذعٍ من شجرة.
«أيها الحقير النذل!» ركلت الباب بقدمها، فوقع الزجاج من على الباب الخشبي الفاصل بينها وبين العجوز الذي كان بمقدوره سحب روحها بنظرة واحدة. فولّت راكضةً على وقع صراخه الذي يضرب خلفها أشدّ من الرعد.