تصاعدت نوباتٌ سريعةٌ من شعورٍ مبهمٍ محسوسٍ في صدره، ولم يكن ليصدّق لورانس القول حين أخبره بأنّه منهار لولا هذا الشعور، إذ لم يعد قادرًا على الإمساك بزمامِ أفكاره أو مشاعره، شعر بها تفلت منه رويدًا وتنساب على طول دخيلته حتى سمع ضجةً عظيمةً من الألم.
عادت ملامحه تتجعّد، التحم حاجباه وانقبض جفناه، فارتسمت فوقهما تجاعيدٌ قوية، وغاصت عيناه حتى كأنّهما تهربان إلى الداخل، وشعر على حين لحظةٍ أنّ رأسه ينكمش على عقله المرهَق في وتيرةٍ أغاظته حتى أشعرته بالصداع.
لمَ لم يقرّ بالأمر للورانس؟ لمَ لم يفضي إليه ما في طويته طوال هذه السنين التي عرفه فيها؟ كلا... هو لم يقدر على اقتلاع السر أبعد عن سطحِ الكتمان، ولا يعتقد أنّه سيكون بكل تلك الشجاعة المحتومة للتعبير كما أحسّ بالشجاعةِ حينما أجاز لنفسه الوقوع في هذا الحب المحرّم.
رفع كفّيه أبعد عن عينيه المنكمشتين، وما إن عاد يرى جيدًا عقب موجةٍ من السواد، حتى أبصر كفّيه المبتلّين، حدّق فيهما ومسح عينيه في حركةٍ سريعة فتحسّس ابتلالها، مسح تلك الدموع على عجلٍ وهو يشعر بالعار من نفسه، منذ متى وهو يشعر بالحاجة للبكاء؟ متى كانت آخر مرةٍ بكى فيها حتى؟ تذكّر أنّها كانت عند وفاةِ ميج، وتذكّر بعدها أنّه وعد نفسه بعدم البكاء عليها وعلى أي شيءٍ آخر، ولم يتوقّع بقوته وجبروته أن يهدم وعده شيءٌ يراه بنظره سخيفًا كالمشاعر والذكريات.
كان يودّ بشدةٍ لو أنّ كذبته التي كذبها على لورانس بشأن عدم بكائه على الأموات كانت واقعية، تمنّى لو أنّ مشاعره جامدةً جمود الجبال كيلا يبكي على أي أحدٍ وأي شيء، لم يستطع تقبّل حقيقة أنّه مغلوبٌ على أمره، فهبّ على طوله وتوجه ناحية كأس الكونياك وتجرّع ما به مرةً واحدة، عاد يصبّ لنفسه بيدٍ مرتجفة، وتجرّع الكأس على دفعتين، توجّه صوب الباب وأقفله، لم يرغب بأن يراه أحدٌ بهذا الحال، حتى وإن كانت عشيقته، محبوبة قلبه، ميج.
تراخى على عتبة الباب وألقى بظهره عليه، صعدت الذكريات على كتفَيه، وانساب على إثرها ما تبقّى من دموعه، مرّر يده إلى جيبه مخرجًا إطارًا ذهبيًا بيضويًا، يتوسّطه بورتريه لشابةٍ حسناء في أوّل عشرينياتها، بيضاءٌ انتثرت على وجهها المدوّر نجوم السماء، والتمعت في عينيها الوديعتين التماعةٌ زرقاءٌ داكنة، وهبطت على سحنتها الفتّانة خَصلاتُها الكستنائيةُ التي خالطتها بعضٌ من خيوط الشمس، تدوّر أنفها الصغير وتكوّرت وجنتيها المحمرّتين كالأطفال مع ابتسامةٍ تخفقُ بكل معاني العذوبة والجمال.
غامت عيناه مجددًا واستشعر شفتيها على شفتيه في قبلةٍ خياليّة، واشتمّ عبقها الذي انتشر في الأرجاء، وسمع صوتها المفعم بنغمات الأماني والأحلام، ثم واتَته رغبةٌ عميقةٌ بضمّها إليه، رغب بأخذها بين ذراعيه كي يشعر ولو إلى حين أنّه مُنتصر، فهي منذ رحلت، يبدو دومًا رغم انتصاراته خاسرًا.