على حافّة الكون المُترَع بالأعباء والحروب، انفرد بينيدكت وإيمانويل، الملتحمين شعوريًا كالجسد والظل، المتنافرين فكريًا كالحرب والسّلم. عند حقولِ القمح اليابسة كالوجوه الكاسفة التي فرّا من وسطها. اتّقدت الحرب في أراضي البلاد جميعها دون استثناء، وتغذّت على قلوب الإنس حتى تجمّرت، وحتى ظنّ الجميع أنّ السماء هي المأوى، ولا يدًا باسقة للحرب تطول السماء. ولكن ما لم يدركوه، أنّها التهمت السماء، ثم انهمرت فوق رؤوسهم كالسراب الخانق.
على السّور الذي بالكاد حمل أعباءه حول عويل القمح الكاسف، تعلّق بينيدكت يشرب من سيجارته وينفث من روحها في الهواء السقيم الذي يذيب بثناياه المظلمة دخانها، ويأكل أنفاس بينيدكت الساخطة في ثوينات قليلة.
وسرعان ما زفر الفضاءُ المحتجب بالضباب في وجهه زفرةً ريحيّةً تطفح بالغضب، فهزّت لفائف شعره المنطفئ وملابسه الفضفاضة العتيقة، فأدار رأسه مع تيار الرياح كأنّه يتحاشى قوى الطبيعة التي تذكّره بضعفه وضآلة حيلته، وغمغم كما لو أنّ السّماء منفيّة، وكما لو أنّها تُنفى خارج حدود البلاد عبر ثنايا الحرب «إنّ الله يلعننا. حتى أنّه غلّق أبواب السماء.»
على نقيضه، فقد رفع إيمانويل وجهه الذي لم تستطع أخيال الحرب أن تطمس براءته، مجيبًا بصوتٍ كهديل الحمام عند جلاء الفجر «إنّه يحمينا من الطيارات الملعونة» ثم رسم صليبًا مرتجفًا على صدره، كما لو أنّه يحاول تثبيت روحه المرتعشة عليه.
طوّح بينيدكت بالسيجارة بين الحشائش النابتة تحت السور، ونفخ في يديه المتجمّدتين بينما يقول ساخطًا وهو يتفرّس المحيط الباهت بعينيه الغاضبتين «أريد الحرية، إيمانويل. من كل شيء. الرب. الحرب. البلاد. اليهود. هتلر. لا أهتم بأي شيء آخر.»
«كُن حرًّا إذًا. طالب بحرّيتك.»
«لا تتحامق معي. الحرّية ليست سيجارةً لعينة كي أطلبها. لا تهرع الحرية إلى عتبتك عندما تناديها أيها الأبله. في الواقع، يلتهم الجميع حرّياتنا ونحن في أرحام أمهاتنا.»
«ألا يجعلنا أحرارًا، أن نهتف بالحرية؟»
«ألا يجعلهم أحرارًا، أن ينحروك بعدها؟»
تلمّعت على شفتي إيمانويل ابتسامةٌ أبصرها بينيدكت رغم السواد المنحلّ بينهما، وبصوتٍ مبعوثٍ من حلمٍ رنّانٍ قال «إنهم ينفذون مطلبي، إنهم يبعثونني إلى الحرية، ويخلصونني.»
تجاذب بينيدكت آمال إيمانويل العمياء وأطبق عليها كمطرقة القضاة بين شفتيه القانطتين حينما أجاب بنبرةٍ ساخرةٍ ولّدها السخط «أنت تعلم أن هذا انتحار مبطن، أليس كذلك؟»
فقال إيمانويل وقلبه يملي عليه «كلا، إنها تضحية.»
أدار بينيدكت ظهره للفضاء الصّارخ المحمّل بآثام الإنس والأرواح البغيضة، وتفرّس سحنة إيمانويل التي توحي إليه ببريقٍ بريءٍ يصارع دجل العالم الذي يبغضه، مستفسرًا «وأي سبيل هذا الذي تضحي لأجله؟»
أجاب رافعًا كتفيه ومبرزًا شفتيه مجيبًا بنبرة استنكارية «الحرية.»
«لن يراك الناس بطلًا بهذا الشكل يا إيمانويل، هذه حماقة.» قالها وهو ينزلقُ من السور مزدلفًا من إيمانويل وقد بدا عليه القلق على أفكار صديقه. القلق غير المعهود. والاهتمام المباغت، والخوف من الفقدان والضياع.
«وما هو أجمل من الحماقة عندما تكون مطلبك؟ أنا لا أتحرر كي يراني الناس حرًّا، بل إنني لا أطلب الحرية التي يريدونها. هذه حريتي الخاصة. خلاصي الخاص.»
«الموت خلاصك؟» زفر بينيدكت ضحكةً ساخرة قدر ما كانت تخفي خوفًا عظيمًا، كأنه كان يحاول بسخريته أن يمسح مخاوفه التي يكفر بها كمان يكفر بكل شيء آخر.
«بل الموت حرًّا.» قال إيمانويل مصحّحًا.
«أتعلم عدد الأرواح التي ستزهقها ما إن يراك الناس تدنّس معنى الحرية بهذا الانتحار؟»
«ولمَ عليّ أن أمثّل الحرية؟ أنا لست رسولًا يا بينيدكت. علينا أن ننسلخ عن فكرة أنّنا نمثّل الأفكار التي نتبناها. جميعنا نمثّل أنفسنا وحسب. ولا يجب علينا يومًا أن نرسم حدودًا أبعد من هذه. فكاهلي لا يحتمل أن يتبعني في طريقي أحد. إنّني بالكاد قادرٌ على تنفيذ رغباتي الخاصة، كي تصبح أفعالي المهزوزة قدوة.»