حمامتي

57 16 22
                                    

في صيف احدى السنوات اشتريت حمامة أسميتها نجمة. لم تكن نجمة من نوع الحمام المدرب الذي يحسن البهلوانيات والتشقلب في الهواء. كانت حمامة تافهة بالكاد تطير مائتي متر حول البيت وتعود إلى قنها مثل مواطن بيتوتي مسالم. وفوق هذا كله كانت تملك شهية مفرطة في تناول حبوب القمح والرز  التي أسرقها من مطبخ أمي لأجلها. حتى أن أمي اشتكت إلى الله في صلاتها ألف مرة ونيف من ذلك اللص الخفي الذي يسرق كيس القمح والرز  من مطبخها الآمن، بل ونذرت أن تذبح ديكا صياحا إن وفقت للإمساك به ذات يوم. ولكن ذلك الطعام لم يذهب سدى يا أمي، إذ كان لنجمة ميزة لا يملكها حتى هدهد سليمان العظيم. كانت تحمل رسائل الحب بفمها وتطير بها نحو سطح الجيران. رسائل غرام قصيرة أضعها في فمها مرددا: طيري نجمة، رافقتك السلامة. فتطير بها مرفرفة بجناحيها الصغيرين ثم تهبط لتضعها عند سرير جنان الحمرة، المرصوف فوق السطح، وتعود. كنت أرسل الرسائل ظهرًا وأنتظر حتى تصعد جنان عند غروب الشمس لفرش الأسرّة ونصب الكلل. وحالما تجد الرسالة تتلقفها بلهفة وخوف ثم تعمد إلى الزاوية تحت ظل الستارة وتجلس هناك لتقرأها وعيونها تبتسم. كانت تقبّلها بعد القراءة وتدسها في مخبأ الفتيات، ، حيث تسمع الكلمات نبضات القلوب. أما أنا فمختبئ خلف الستارة، أراقب المشهد من بين فتحات الطابوق الإسمنتيّ المقرنص، وصدري يرتفع وينخفض، يرتفع وينخفض، يرتفع وينخفض. كانت جنان، وقبل أن تنهي عملها وتنزل إلى فناء البيت،
استمر شهر العسل ذاك لتسعين يومًا بالتمام والكمال، ولولا ابن خالتي، معتز، عليه لعائن الله وملائكته وأنبيائه ومن قال آمين، لبقينا غارقين فيه حتى قيام الساعة. إذ زارنا ذلك الصبي الثقيل ذات نهار برفقة خالتي من أجل خياطة قميص للمدرسة. سجلت أمي قياساته وأخبرته بأنها ستخيط له أحلى قميص بالعالم وتجعله أحلى تلميذ في مدرسة العباسية الابتدائية للبنين. لقد كذبت عليه لأنها لو ألبسته قميصًا ماركة غوتشي ودهنت شعره بأفضل أنواع الجل العالمية لما تحسّن شكله، مجعمر خرا بيومه. اللعين، ابتسم لي بمكر وهو يسمع كلام خالته وكأنه يقول: "شعبالك؟!"، وتزقنب علبة بسكويت كاملة وثلاثة أقداح من شربت نادر، فتركته وخرجت. كان عليه أن يلحق بأمه التي ذهبت لشراء اللحم من كاظم القصاب، لكنه فضّل البقاء لمشاهدة الحلقة قبل الأخيرة من مسلسل السندباد. تسمّر أمام الشاشة حتى انتهاء الحلقة وسماع موسيقى النهاية، ثم أخذ يبحث عني في الأرجاء ولم يجدني. وفي النهاية تسلل إلى السطح، وفُضح أمري. رآني هناك أزقّ الطعام لحمامتي وأطش على رأسها حبوب القمح تعبيرًا عن شكري وامتناني، فما كان منه إلا أن هبط السلم على أطراف أصابعه، ووشى بي لدى السيدة الوالدة أطال الله عمرها وغفر ذنبها. المفاجئة أن أمي لم تواجهني بجريمتي بل صمتت وغلست على الأمر. انتظرت عودة أبي من العمل لتخبره بالحكاية: "ابنك طلع سرسري ، ويرادله تأديب." كانت تلك آخر جملة سمعتها قبل هروبي من بيتنا وطلب اللجوء في بيت جدي. أتذكر بأني وصلت إليهم حافيًا مدمّى مزرقّ العينين وقد تورم الصوب الأيمن من جسمي، فاستقبلتني جدتي علاهن بالأحضان باكية، ومنحتني إقامة دائمة. لعن الله كل معتز ساهم في تطشيشنا من منازل أهلنا، وحرمنا من التلصص على عيون حبيباتنا.. آمين.

 آمين

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
ابتسامهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن