الفوووت لو سمحتوا ياقمراتي ..
إسمي رغد ويعنى نعومة الحياة ..
اعتدتُ على الرقة والدلال مُنذُ نعومة أظافري، فعائلتنا يفوق أعداد نسائها مجموع رجالها، ويتفوق جمال إناثها الهادئ علي قوة ذكورها، فربيتُ بين طيات حرائرهُن وتعلمت أُسس وقواعد اللباقة والخفة على أيديهُن، وغدوت كالريشة في رقتها ولُطفها وخِفتها، فكُنتُ أتحرك دون أي يشعر بي أحد وأتحدث وكأني أهمس فلا يستمع إلي قولي سوى من أُحدثه، وأجلس كالأميرات باستقامة وبساقين مضموتين، وأمشي في الطريق على استحياء دون حفيف مُلقية بنظراتي إلى الأرض، أرتدي ألوانًا مُبهجة مُشرقة تليق ببشرتي العاجية وبنفس الوقت لاتفشي أسرار جسدي الصغير، ابتسم بانفراج دون أن تظهر أسناني، ولا أتحدث حين أتناول طعامي، ولايرتفع صوتي بالضحكات بصُحبة رفيقاتي، وماإلى ذلك من مظاهر الأدب والعفاف ..
كان إحساسي بالأشياء من حولي مُفرط وحالم، أرى أوجه الجمال فقط ونادرًا ماتلتقط عدستاي عيبًا، أُحسن الظن في الجميع دون أن أفترض السوء، أعمل جاهدة كي لاأُضمر الضغينة أو يملأني الخُبث تجاه أحدهم، وذلك كما ربتني أُمي وجدتي ..
أما أبي فدائمًا ما كان يعترض على تلك الرقة البالغة وحُسن الظن الذي أنا عليه فكيف لي أن أُواجه صعوبات الحياة وأتخطاها بذلك السلوك الذي لايتماشى مع سمات البشر في ذلك العصر، ودومًا ماكان يُردد :
_ نحنُ لسنا بعالم الفتيات الوردي..
إلا أن أُمي لم تقتنع أو تعبأ بكلماته يومًا بل كانت تقول مُدافعة مُوضحة :
_ دعّ الفتاة وشأنها فلقد خُلقت أُنثى ولن تتعامل سوى بأخلاق اُنثى ..حقيقةً أنا لم يُحاوطني يومًا سوى الإناث، ولم أعرف كيف يتعامل الذكور فيما بينهم، فلم أُخالط سوى أبي وخالي وأعمامي وأقاربي من الذكور في طور الطفولة ..
لذا كُنت أبحث دائمًا عن فارسي المُنتظر، وأتطلع إلى الإحساس بالحُب ..
فكُنت أنتبه بكل جوارحي عندما تروي إحداهُن عمن تهيم به حُبًا، فاستمع إلي حديثها بأعين مُنبهرة وأنفاس محبوسة وصمت مُطبق يشملني، فلا يصدر مني سوى تنهيدات خجلة كُل فينة والأُخرى وكأني استمع إلى قصة خيالية يرفرف فيها الحُب بكلتا جناحيه، وأتمنى لو أني استطع أن اكون إحدى بطلاته ذات يوم ..
لكن رغم تلهفي ذلك .. فلم ينجح أحدهم في لفت أنظاري إليه ذات يوم، ولم يتعلق قلبي حتى ولو سرًا بأي شخص إلى أن قابلته ذات مساء ..
ذلك المساء المُظلم بداخلي عندما كانت تُغطي العبرات مقلتيّ وأنا في طريقي إلى المنزل، لم أعي بنفسي سوى وأنا اصطدم بأحدهم، فسقطت أرضًا وتبعثرت مُحتويات حقيبتي، وعلى الفور بدأت بلملمتها في نفس الوقت الذي زاد فيه إحتقان مقلتيّ وودت في الإنفجار بالبكاء ..
لكنى لم أُتح الفرصة لذلك وهممت واقفة وسارعت بالمُغادرة دون أن أنظر حتى إلى من أحدث تلك الفوضي التي كُنت عليها، لكني وجدتها فُرصة مُناسبة للبُكاء وإخراج جميع مافي جُعبتي، فأنهمرت الدموع من عينيّ بحُرقة لاتُضاهي حُرقة قلبي الصغير، قلب بُرعم لم يذُق من قبل أوجاع الخيانة وهو الذي طالما أحسن الظن بالجميع وخاصة بها هي ..
كانت صديقتي الوحيدة أو كذلك ظننت على مدار سنوات ماضية، والآن انكشفت حقيقتها فلم أكُن لها سوى رفيقة طريق ليس أكثر، والآن عليّ أن أعتاد على الحياة بدونها ..
تباطئت في سيري حتى أنتهي من بُكائي قبل وصولي إلي منزلي، وحين فتحت باب منزلنا شهقت أُمي بذُعر بعد أن هالها مظهري، فذكرت لها واقعة سقوطي أرضًا وتعللت بألم قدمي إثر تلك السقطة، ولحُسن حظي صدقتني وهرولت أنا إلي غُرفتي مُحاولة إخفاء ألم نفسي ..
أفرغت مُحتويات حقيبتي بغضب باحثة عن هاتفي كي أُزيل كُل أثر عن تلك الصديقة الخائنة بداخله، عَلِي أنجح في مسح كُل ذكرى لها بداخلي أنا أيضًا، لكن استوقفتني تلك الصورة الصغيرة بين حاجياتي ..
صورة لايتعد عرضها عرض الأصبعين، لشاب جميل الملامح ذو ابتسامة بشوشة وأعين سوداء لامعة، تُشعرك نظراته وطلته بالبهجة والأمل، وكأنه يبعث برسالة خاصة لمن يراه، وكذلك شعرت أنا؛ فقد تلاقى حاجبيّ باستغراب مُتناسية أوجاعي وخُذلاني، وتسائلت بفضول طفلة لاتقدر على الاستيعاب تُرى لمن هي تلك الصورة وماذا جاء بها بداخل حقيبتي !
أدرتها إلى الوراء لأُصادف تلك الكلمات المخطوطة عليها بخط مُنمق ممدود النهايات يدل على صِدق صاحبه، فقرأتها بصوت مسموع (اكتفِ بصورتي حتى يجمعنا القدر سويًا .. خالد) ..
تجمدت لثوانٍ قبل أن تظهر ابتسامة على ثغري في مُحاولة مني لنسج قصة خيالية لبطل تلك الصورة ولمن أراد منها أن تنتظره ..
خالد .. اسم يليق على صاحبه لكن تُرى ماقصته وكيف تواجدت صورته داخل حقيبتي ! هل سقطت سهوًا من داخل محفظة إحداهُن وقذفها الهواء بين أشيائي ! أم أنها هي من قذفت بها بعيدًا عن عَمد، تُرى هل خذلها هو الآخر كما خذلتني صديقتي !
جلست أُفكر كثيرًا وأُحصي على أصابعي الأماكن التي مررت بها في يومي، لكن في كُل الأحوال مُحتويات حقيبتي المُغلقة ظلت بداخلها لم تُغادرها سوى عندما .. عندما اصطَدمت بذلك الشاب ..
خالد !