الفصل الثالث

462 62 7
                                    

أحببتها منذُ ...
منذُ تلاقت أصابعنا الصغيرة في عناق طفولي بريء ونحنُ في طريقنا إلي المدرسة، مُنذ رفعت عنها حقيبتها الثقيلة كي تُسرع في مشيتها المُتخلفة عني بعدة خطوات، منذُ تخللت أناملي ذات يوم خُصيلات شعرها الناعمة لأجذبها منها بمشاكسة كما اعتدت..
لكن ودون أن أشعر هذه المرة أحسست بتلك الخفقات المُتتالية بداخلي واستمتعت على غير عادتي بذلك الملمس الناعم الذي يجذبني للغوص بداخله أكثر وأكثر فتمنيت لو أن باستطاعتي ترك أصابعي فترة أطول على ذلك النحو، لكنها سُرعان ما دفعتني عنها بقوة مُدافعة؛ ظانة أني في طريقي لجذب شُعيراتها، لذا قالت ببراءة :
_ هقول لمامتك إنك كنت عاوز تشد شعري تاني ..

قالتها بغضب واضح وبأعين مُمتعضة قبل أن تفر هاربة إلي أُمي تُناديها بصوتٍ عال، بينما أنا لازلت بنفس مكاني لم أتحرك، مُنشغل بذلك الشعور الجميل الذي داهمني .. لأول مرة ..
وفي تلك اللحظة أدركت أني مُغرم ..

أعتقد أني كُنت في الحادية عشر وقتئذ بينما هي لم تكن تجاوزت الثامنة بعد، مُنذُ ذلك الحين وقد تبدلت أفعالي معها إلي النقيض، فلم استمر في مشاكساتي وعنادي بل وكأني تحولت بين ليلة وضحاها من طفل إلى رجل بالغ مسؤول ..
أصبحت أدخر من مصروفي اليومي كي أُهديها ماتُحبه من حلوى، صرت أتملص من وقت التسكع مع رفاقي كي أجلس للاستذكار برفقتها، أصبحت أُلازمها كظلها وكأنني ملاكها المُخلص وحارسها الأمين، ولحُسن حظي لم يُثِر ذلك الشكوك بل ساعدتني صلة القرابة وعلاقات الأهل وإقتراب المنازل، فكُنت أتصنع التأفف والضجر وكأن الأهل هُم من ألقوا على عاتقي تلك المسؤولية التي لامفر منها ..

مرت الأيام والسنوات وأنا لا أكاد أُفارقها رغم إنتقالي إلي مدرسة أُخرى بعيدًا عنها إلا إني لم أغفل عن حراستها بل صرت أتتبعها هي ورفقاتها حتى تصل إلي مدرستها بأمان، كانت تراني وكُنتُ ألمح أنا ذلك الفخر الذي يملأ عينيها وهي تنظر إليّ من ورائها كُل فنية والأُخري لتطمأن بوجودي، فتزداد ثقتها بحالها وتنتصب قامتها بين رفقاتها وكأنها لاتخشى أحدًا ...
كيف ذلك وملاكها الحارس من ورائها، كانت تعلم جيدًا أنه لن يدع مكروهًا يُصيبها أو يسمح لأذى بأن يطولها في وجوده ..
وفي الوقت الذي أصبح فيه ذلك الشعور المُحبب بداخلي يزداد ويتفاقم دون إذن مني، نضجت هي أمام أعيُني وأصبحت أقل صخبًا وأكثر هدوءًا، ذهب عِنادها وحل محله حياء الأُنثي التي تحمر وجنتيها خجلًا لمُجرد نظرة، لم تَعُد طفلة بل وكأنها تبدلت بين ليلة وضُحاها مثلما تبدلت يومًا أنا الآخر، لكن تغيُرها ذلك لم يكن مثل خاصتي، بل ازدادت عني ابتعادًا وبدت وكأنها تهرب بنظراتها من مُلاقاة عيني، وصارت ترفض بشدة تتبعي لها وهي في طريقها إلى مدرستها، بل وكانت تتحاشاني في كُل تجمع عائلي وكأني أصبحت مصدر الشرور في حياتها ..

تملكتني الحيرة من أمرها وبدأت الشكوك في الزحف نحو صدري وحدثتني نفسي أنه لربُما تعلق قلبها بأحدهم ! وسوس إليّ شيطاني بأن أحدهم ذلك يُرافقها في طريقها إلي مدرستها، ثارت نفسي واندفعت الدماء في عروقي لمُجرد تخيل ذلك المشهد وعزمت على مُراقبتها كُلَ صباح دون أن تراني ....
لم أتوان عن فعلتي رغمًا عن رفض عقلي لتلك الفكرة المُهينة إلا أن غِيرتي كانت هي من تدفعني لتلك الحماقة، وظللت على ذلك النحو لمدة أسبوع كامل أتتبعها دون أن تلمحني، وبكل يوم يزداد قلبي تأنيبًا لشكي بها وإفتراضي السوء بأخلاقها، وقبل أن أُقرر التوقف عن التلصص عليها .. لمحتني هي ..
ليست وحدها بل وجميع رفقاتها، واشارت إحداهُن نحوي بابتسامة فأضطررت للتقدم إليهُن وإلقاء التحية ..
رأيت وجهها وقد تغيرت ألوانه وكأنها استشاطت غضبًا لمُجرد رؤياي، فلم تتكلف حتى الابتسام بل عبست وتطلعت هي بأعين تتقد شرار إلى إحدى صديقاتها التى بادرت بقولها :
_ ازيك .. محدش بيشوفك ليه من فترة ..

غباء الحُبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن