خرافاتٌ واهية

34 8 1
                                    

تحتك قدماه الحافيتان بتراب الأسفلت البارد، وتلتقي أطراف أنامله بخصل شعره التي يخالجها الشيب المتناثر، يجلس على قطعة ثلج لا رصيف، لكن النار الموقدة داخله وداخل منزله أفقدته الإحساس بهذا الجو القارس.

قبضة يده تخنق خده لتطبع قبلة حمراء عليها إثر تفجر الشعيرات الدموية الدقيقة تحتها. في الحقيقة... هي ليست قبلة؛ إنما أثر صفعةٍ أخرى هوت على خده الذي بات مَداسًا لكل ما هبَّ ودبَّ من الجوائح التي تتساقط فوق رأسه بلا هوادة.

ضاقت عليه هذه الدنيا الواسعة، فبات كأنما يتقلب بين حديدتي ثقب إبرة يخنقه ويدخل به بين أقمشة المصائب.

لقد رفع الراية البيضاء في وجه الحياة، وجثى على ركبتيه يقبل إخمص قدميها آملًا أن ترحمه من كل هذه النوائب التي قسمت ظهره.

حتى أنه ترك المنزل يتقد وأعطاه ظهره غير مبالٍ لألسنة اللهب التي تكاد تلتقمه دفعة واحدة، ولم يفكر في الاتصال بالإطفاء؛ فما ضرَّ الجثة بضربات السيف؟

«يا رب، لقد ضاقت إلى أن استحكمت حلقاتها، فمتى تُفرج؟»
بعينين مغرورقتين بالبكاء نبس بها من بين أنفاسه التي تجاهد كي تخرج من رئتيه التي انكبست على قلبه الواجف.

لولا ياسين الذي تمالك نفسه بعد نوبة الهلع التي أصابته لكانوا في تعداد الموتى، لكنه استطاع التصرف وطلب شرطة الإطفاء التي تأخرت بعض الشيء، ومضى يحاول ما يمكن إنقاذه.

لكن إبراهيم تجاهله كما يتجاهل جملة التدخين يؤدي إلى الوفاة التي تلتصق بكل علبة دخان شربها، وظل ماكثًا مكانه بمعزل عنه؛ فلا شيء يبكي عليه.

«لقد هلكت، كل شيء بات رمادًا، كله يتناثر ويختفي، كهذه السيجارة تمامًا.»
سمح لدخانه أن يعانقه ويشكل حوله زوبعةً سوداء تحُفه.

اقشعر جسده احتجاجًا على هذه اللمسة التي باغتته وشتته عن وضعه البائس، بمجرد أن تعرف على صاحب هذا التربيت أدار وجهه مرةً أخرى.

«كل هذا بسبب ما فعلته زهرة النرجس التي نتفتها.»

قلَّب ياسين عينيه سريعًا زامًا شفتيه، ثم استرسل متأفئفًا:
«هل تصدق هذه الخرافات؟ هل كل من أُحرق منزله قام بنتف زهرة نرجس؟ هي لا تنمو هنا أصلًا! من الأجدر أن نسأل من أين أتت هذه أولًا.»
لم يكد الفتى يكمل كلمته حتى وجد ظلًا يقترب نحوه، يدنو رويدًا رويدًا، أهذا صاحب الظل الطويل الذي يتمتع ظله أميالًا قبل جثته؟ وكيف تظهر الظلال في الليل!

ظلَّ هذا الظِل يقترب منهما ويمتد وينتشر، وهو يكاد يفقد صوابه، حتى تبخر هذا اللون الأسود ووظهر رجلٌ عملاق بغتة.

باسقٌ فارع الطول، بتنورة بيضاء، وخطوط حمراء على وجهه المكفهر، ومظهر مخيف.

«تيتون، تيتونوان. تيتون، تيتونوان.
حقكم سيعود لا محالة! هذا القليل والقادم أكثر! موعدنا يوم ووند يي.»

اللاكوتاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن