الجزء الأول: الذكر الشرقي المسكين

58 14 0
                                    

قطعت هذه الجملة انهماكه في تحقيقاته المكثفة حِيال وجود زهرة النرجس التي لا تنمو في منطقته هذه أبدًا، هو يهاب هذه النبتة؛ يذكر أنه قرأ كثيرًا عنها في صغره، وكيف تقتل النباتات الأخرى جانبها، إنه أكثر من مجرد بِتلات مُفلطحةٍ ملونة فوق ساق خضراء إنها قاتل متسلسل، يبُث السم في جيرانه من النباتات، حتى يضمن سيادته التامة.

شدَّ زائر الليل رسغه المدفون تحت أكوام الملابس الصوفية الثقيلة التي تحاول تدفئة صاحبها التي هاجرت الدماء من وجهه، ليتأوه إثر ضغطه المتتابع، محاولًا أن يفلت من قبضة يديه.

«أجل، تفضل أستاذ إبراهيم.»

بصوت مُخامر بالفزع والارتباك، حاول أن يُعيد سيطرته على الموقف متجاهلًا أنه بالفعل قد دخل واتضجع على الكرسي الذي يتوسط سفرة الطعام في الصالة.

هو يؤمن بالأقدار، وبالكارما، وأن لكل فعل رد فعل، وأن الدنيا دوَّراة، يوم لك ويوم عليك، وأن الجزاء من جنس العمل، لكن ليس لهذه الدرجة!

إنه يجلس واجمًا، تكاد لا تفرق بينه وبين الكرسي الخشبي تحته في تسمره، ومن هذا الجسد الساكن، تدحرجت بَكرة الخيوط الكريستالية مالحة المذاق، راسمةً خطوطًا لامعة على خديه البُرنزيين، وبمجرد أن تصل إلى محطتها المتمثلة في شفتيه الدقيقتين المزمومتين تنسدل خيوط أشد غلطةً منها لتتجه إلى نفس الوِجهة.

لا يعلم منذ متى تكون عنده هذا الشعور، لكنه يعتصر ألمًا إن رأى رجلًا يبكي، خاصةً أنها قد تكون أول مرةٍ يرى فيها رجلًا يبكي أصلًا؛ حينها يشعر وكأنما يقاسمه الشعور، ويناصفه دموعه.

لربما هو انعكاس لسلوكٍ يقوم به بعض الوقت، ترى أهو قهر الرجال الذي يستعيذ بالله منه في صبيحة بعض أيامه عندما يتذكر قول الأذكار؟

«أين يوسف؟»
من بين أنفاسه المتلاحقة نبس بصوت يكاد يسمع، وهو ثابت أمامه يرمقه بنظرات مدججة بالشفقة.

«خلد إلى النوم قبل قليل، هل يمكنني مساعدتك؟»

بدا كأنه زجاجة خُضَّ محتواها وباتت جزيئاتها في حالة فوضى عارمة تهيم بلا وِجهة معينة.

«أنا مذعور، هل يمكن أن يكون سرطان اللسان؟»
مدَّ لسانه بأكمله خارج حيز فكيه، مشيرًا إلى البقع البيضاء وبعض القروح الطفيفة المنتشرة في أنحاء لسانه.

عقد ياسين حاجبيه تاركًا حوله تجاعيد مصتبغة بلون قمحي فاتح بصبغة (ميلانين) شحيحة، واقترب ليسكن وشاحًا وجده على حافة كرسي المنضدة جزع الرجل المترجف ذاك.

ما هذه التصرفات التي تناقد شخصيته حادة الحواف؟
«سلَّمك الله، سرطان ماذا!»

«انا أعرف أنني مدخن شَره، لكنني تالله سأتوقف، أتوسل إليك أن توصلني رجاءً إلى المشفى، ليس معي نقودٌ للمواصلات.»
راحت شفتاه تهتز كجناح بعوضة تفر هاربة من محاولة اغتيال بالمبيد الحشري.

ربت على كتفه بحنو في محاولة لطمأنة قلبه المتوقد على حطبٍ من القلق.
«حاضر، لكن ماذا عن نقود الكشف؟»

«لا تشغل بالك به، لدي شهادة تأمين صحي.»

كبرياؤه حال بينه وبين مصاحبته، كفى إلى هذا الحد، يكفي أنه استقبله بشكل لائق، لكنه لن يقوَ على تجاهل إهانة الصباح ومرافقته وكأن شيئًا لم يكن، قلبه ليس جلمود صخر لا يؤلمه وخز الأَسنة.

بعد أن ضُرب الباب بعَجلة أتبعه بضرب كفوفه ببعضهما زامًا شفتيه وهو يقول في نفسه:
«كيف لهذا الجبروت أن تخور قواه بهذا الشكل ليس وكأنه مبنى مخوخ آيل للسقوط؟ سبحان مغيُّر الأحوال، من يره الآن وهو يتشبث بي كطفل شديد التعلق بوالدته، لا يره وهو على وشك إلصاق المنضدة بوجهي.»

لم يدرِ أيتعاطف معه؟ أم يتشمت به؟
لكن كل ما أراد أن يعرفه هو لماذا تكسر النقود ظهور الرجال بهذا الشكل؟ لماذا تختزل كل حلوٍ فيهم في عدة ورقات مطبوعة بخسة القيمة؟

«من كان هنا يا ياسين؟»
فركت أمه عينيها وهي تسير محدثةً صوت احتكاك مزعج بين شُبشبها والأرضية الباردة، حتى كادت تسخن تحتها من قوة جرها لقدمها التي أثقلها تقدم السن.

ارتبك وتخربطت حسابته، وهو الآن يحاول أن يبحث عن طوق نجاة يخرجه من هذا الموقف الحرج.
«هه؟ لا أحد، إنه فقط جامع القمامة، أتى ليسأل ما إن لدينا أكياس أم لا.»

أشاحت بوجهها بعيدًا وهي تشق طريقها نحو غرفتها بعد أن اطمأن قلبها.
«لا تعطه شيئًا، إنه يأتي يومًا ويغيب ألف، هل سنحول منزلنا مكبًا للنفايات إلى أن يحين قدوم مزاج الباشا ويتفضل بزيارتنا؟ شباب أخر الزمن!»

أغلق أزرار منامته القطنية المريحة بتوجس، وابتسم حتى بدت نواجده، ليغير ملامحه التي تعرفها إن كذب عليها؛ تحسبًا لأي استدارة مُباغتة منها، لكن الارتباك أبى ألا يفسد ملامحه المصتنعة.

«لا لا، لم أعطه شيئًا، قلت له أنني قد رميتها في طريقي لدفع فاتورة الانترنت.»

أصرت على استكمال الحديث رغم تثاؤبها؛ فخرج صوتها مكتومًا.
«أجل صحيح، لكنك تأخرت كثيرًا اليوم.»

«تعلمين، خدمات الانترنت عليها ضغط مهول؛ فكان المكان مكتظًا بالعملاء كما أنهم فقدوا السيطرة على الشبكة لبعض الوقت.»

«ما كل هذه المصائب التي اندفعت مرةً واحدةً دون سابق إنذار؟ لكنك عزمت على دفعه رغم الزحام لتكمل عملك الفاشل على الانترنت وتخصصك الأهوج في اللغات؟»

«شغفي تجاه اللغات ليس أهوجًا، لكن على أي حال، تصبحين على خير.»
أغلق الحوار بقِفلٍ من فولاذ، وهرب إلى غرفته كأنما يفر من قسورة، قبل أن يفتح المحقق أوراق محضرٍ جديد.

رغم أنه أراد أن يتقمص دور المحامي ويدافع عن حبه للقراءة والاستطلاع فيما يخص اللغات والقديمة منها خاصةً، ولا يحق لها أن تهزأ منه بهذا الشكل لأنه متخصص في شيءٍ يجيده ومتفوق فيه.

ترى متى ستتوقف عن مقارتنه بابن خالته الذي التحق بكلية الهندسة وظلَّ عالقًا بها سبع سنوات عِجاف؟ ما فائدة لقب مهندس وهو لا يُجيد فكَّ بعض المسامير!

لكن المهم عندها اللقب؛ المهندس ذهب، المهندس أكل، المهندس شرب.
لكنهم لا يقولون المهندس رسب، المهندس ضيَّع عمره.

_____

اللاكوتاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن