٤

25.5K 333 2
                                    

رفعت الأميرة نظرها لأول مرة لتنظر في عينيه السوداءان القويتان .. ظنت انها لم اسمع جيدا، فسألته في شك: ماذا؟ .. ماذا قلت؟

ابتسم مرة أخرى وقال بهدوء: كما سمعتيني .. لا أخطط للمسك هذه الليلة..

ارتفع حاجبا الاميرة في دهشة وقالت في شك: هل هذه خدعة من نوع ما؟

اتسعت ابتسامته لتكشف عن أسنانه النظيفة وقال: لا .. إنها ليست خدعة..
ثم اردف بعد قليل من التردد: يمكنك أن تقولي إنها رسالة..

سكتت قليلا وهي تتفرس في ملامحه إذ ظنته يمزح، ثم وملامحه ظلت ثابتة قالت متسائلة: رسالة!!

أومأ برأسه بينما اختفت ابتسامته ..

سألته: رسالة لمن، ولماذا؟

مط شفتيه وقال: لمن؟ .. لكِ ..

زاد ارتفاع حاجبيها في مزيد من الدهشة، ولكنه اردف: ولوالدك الملك ولوالدتك الملكة .. ولمجلس الحكم .. ولوزراء القصر .. وللنبلاء .. والأهم، لكل شعب المملكة أيضا..

لاح في ذهنها ان ما يقوله يشبه هؤلاء المجاذيب الذين يجوبون الشوارع بملابسهم المهلهلة وشعورهم المشعثة، الذين يسيرون في كل مكان يصيحون داعين الناس لدين جديد او واعدينهم بالهلاك الآتي من السماء او شاتمين كل من يمر أمامهم دون سبب..
كان كلامه يشبههم .. نفس الثقة والتفاؤل والانفصال عن الواقع ..

فلت السؤال من لسانها: هل أنت مجنون أو شيء من هذا القبيل؟

ظلت ملامحه هادئة ولم يبد عليه أي دهشة من السؤال، ولكنه هز كتفيه وأجابها: ربما .. لا مجنون سيعرف أنه مجنون على أي حال..

كانت إجابة غريبة .. ولكن قبل أن تحاول تفسيرها جاءها خاطر مرعب عندما لاحظت الفأس المركون بجوار الباب .. هو أراد أن يقضي ليلة مع الاميرة، وهذه الليلة ستكون رسالة للجميع، ولها أيضا ..

سألته في صوت متحشرج: هل .. هل ستقتلني؟

نظر لها للحظة دون فهم، ثم انفجرت من فمه ضحكة عالية حتى أن بعض الدموع طفرت من ركني عينيه ..
ما أن انتهت ضحكته حتى قال بأقصى جدية استطاعها: سيكون هذا وأد لرسالتي في مهدها..

تنفست الصعداء قليلا ثم عقدت حاجبيها وسألت: وما هي هذه الرسالة؟

حول عينيه عن وجهها ونظر للزجاجة الذي يمسكها بيده .. وضعها على المنضده وأخذ يديرا ببطء صامت بعض الوقت، ثم قال دون مقدمات: رسالة تقول "نحن هنا"

نظرت له في شك ثم سألته: ومن هؤلاء ال "نحن"؟

استمر بالتحديق في باقي النبيذ المتجمع في قاع الزجاجة ثم قال : نحن الشعب .. نحن العامة .. نحن الحطابين والفلاحين والحدادين والحرس وربات البيوت والأطفال والكهول .. نحن الهواء الذي يملأ هذه الزجاجة ولا يراه أحد لأن الجميع لا يهتم سوى بالنبيذ..

للمرة الأولى تلحظ بعض التأثر في نبرة حديثه .. ولكن ما يقول ظل غامضا بالنسبة لها .. قالت: لا أفهم ..

قال دون أن يرفع عينه عن الزجاجة: ولن تفهمين .. هل تعرفين كم من الوقت حكمت أسرتك هذه المملكة؟

كانت تحفظ تاريخ المملكة عن ظهر قلب، فأجابت في لهجة دفاعية: بالطبع .. ما يزيد عن مائتين وثلاثين عاما بقليل..

أومأ برأسه موافقا ثم سألها: وكيف وصلتم للحكم؟

ترددت قليلا ثم قالت: انتهى حكم اسرة الكسنونيين وبدأ حكمنا نحن..

طقطق بلسانه وقال مصححا: تقصدين انقلبتم عليهم واستوليتم على الحكم ..

قالت باندفاع: الحكم ينتقل بهذه الصورة دائما، هل تلومني على أحداث منذ اكثر من قرنين مضوا؟

تجاهل سؤالها وسألها مرة أخرى: وممن استولى الكسنونيين على الحكم؟

قالت في شيء من التحدي: من الكارليين .. هل تحب أن أسرد لك تاريخ المملكة خلال الألف عام الاخيرة؟

نظر لها وابتسم بالرغم منه عندما رأى ملامح الغضب على وجهها .. ثم قال في هدوء: لديك معلومات لا بأس بها ايتها الاميرة، ولكنني أشك أنك تعرفين تاريخ المملكة بالفعل خلال تلك الألف سنة، بل أشك أنك تعرفينه خلال الخمسون عاما الفائتة فقط..

فتحت فمها لتتكلم ولكنه استأنف حديثه بسرعة: نعم اعرف انك لابد قد درستي هذه الاشياء كجزء من مهامك كأميرة، ولكن ما أقصده هو أن ما تعرفينه ليس تاريخ المملكة ولكنه تاريخ القصر..

بدا عدم الفهم على وجهها بينما هو يكمل: المملكة ليست القصر أيتها الأميرة .. تاريخ الصراعات والمؤامرات والاستيلاء على العروش، هذه كلها أشياء حدثت ما بين جدران القصر الاربعة .. وأي مملكة سيكون من المخزي تماما اختزال تاريخها بأكمله في احداث حدثت فقط داخل أربعة جدران ..

سكتت قليلا لاستيعاب ما يقول ثم ابتسمت بسخرية وسألته: ماذا إذا؟ .. هل تغار من أن التاريخ لن يشملك؟ .. هل تريد أن تحكم أنت مثلا؟!

صمت قليلا ثم قال في جدية: نعم .. أنا أريد أن أحكم بالفعل...

بريما نوكتا (+١٨)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن