دق قلبها بعنف مميت عندما تيقنت أن كل ما عايشته معه كان خدعة كبيرة، كاد عقلها أن يطير من مكانه من الفكرة نفسها، هل أصبح ماجد عدواً يجب القصاص منه بعدما كان صديقا، حبيبا، أبا، أخا وكل شئ قد يُطلق على رجل بلسان امرأة عاشقة!
تساقطت عبراتها دون أن تشعر بها، بكت كأنها لم تبكي من قبل، ضجيج أفكارها يصرخ قائلا بلهفة وشوق يتمردان على قلبها الذي اكتشف حقيقة ساكنه الكاذبة:
"أصبحتَ ماضي وما تبقي لي منك سوى الرماد فما أقبح حاضر لا يجمعني بك فيه شيئا إلا الذكريات، أنتظر عودتك كل ليلة، ينقسم قلبي كلما تذكرت أنك أصبحت من المحرمات، ويح على قلبي الذي يقتلني شوقاً إليك ولا يعرف بدونك كيف يكون الثبات"
ارتفع صوت نحيبها ليخترق أذنيَ أكرم الذي ركض إليها متلهفاّ، احتضنها بخوف، طبطب على كتفيها وهي بين أحضانه، استسلمت له، تمسكت به بقوة جعلته يغدقها من حنانه أكثر، جعلها تنظر إليه، مسح عينيها بكفيه، هتف بتصميم:
- هتنسي وهتكوني كويسه أوعدك، مش ذنبك إنك كنتي مخلصة وحقيقية، إوعي تلومي نفسك.
رأته حور من بعيد وهو يحتضن هديل بقوة وكأنها ستموت بعد لحظة! صرخ قلبها متألماً، كاد لسانها أن يعقبه بالصراخ، حاولت أن تتماسك وفكرت بأن تعتذر للخروج من المخيم حتى يرحلا، لم تعد تحتمل نيران الغيرة الحارقة التي تنهش بدماء قلبها كلما رأته بقربها!
فرت دمعة هاربة من مقلتها، جاهدت حتى تعود لثباتها، اقتربت منهما، هتفت بصوت مهزوز:
- إنتوا كويسين؟ في حاجه حصلت يا أكرم؟
إلتفت بحدة لينظر إليها، ترك هديل برفق قبل أن يوجه جسده كاملاً تجاه حور، هتف بصوت مرتفع:
- هو أنا مش قولتلك تخلي بالك منها؟ إزاي تمشي وتسبيها لوحدها كدا! هنتحاسب بعدين يا حور مش ممكن أعديلك الموقف دا بالساهل أبدا.
لم تقوى على تحرير كلمة واحدة، شعرت أن لسانها قد فقد قدرته على النطق برغم ثرثرة قلبها الثائر منه وعليه!
"فبرغم صمتي وثباتي أمامك إلّا أن قلبي يثرثر بلا هوادة عندما يراك"
إنتهى من توبيخها ثم إتجه إلى الخيمة حاملاً هديل إلى أحضانه، حثها على تبديل ثيابها وحدها داخل الخيمة حالما ينتظرها بالخارج، تأخرت عليه فاستأذن قبل أن يدخل إليها، وجدها محتضنة الدمية باحتياج عاطفي، ووجهها عابس حزين، اقترب منها ببطئ، قال بصوت خافت:
-أنا هعملك اللي إنتي عايزاه، أول ما احس إنك بقيتي بخير وأطمئن على حالك هنتطلق!
صُعقت عندما وصلت تلك الكلمة إلى أذنيها، شعرت بغصة تجتاح جنبات صدرها، سيغادرها أمانها وحصنها المنيع، سَيُسحَب بُساط الطمأنينة من تحت قدميها إن عزم أكرم على تركها لكن كيف تخبره بما يعتمل بصدرها إثر وقع تلك الكلمة المخيفة عليها!
استرسل أكرم في حديثه حيث قال متألماً:
- أنا عارف إنك محبتنيش ولا حتى في أمل تحبيني، بس أنا عمري ما حبيت حد غيرك! أنا هسيبك على الأقل وأنا مرتاح بعد ما أنقذتك منه.
تساقطت العبرات على خديها بغزارة، ودت لو منعته من ذلك التفكير، ودت لو طلبت منه أن يعطيها فرصة أخرى لكن ما فعلته به ليس بهين!
ألقى آخر كلماته على مسامعها قبل أن يذهب إلى حور ليحاسبها على ما فعلته مع هديل حيث قال بصوت يشوبه البكاء:
-أنا عمري ما كنت إنسان معندوش كرامة، وعمري ما اتعديت على حقوق غيري، ولا عمري هغصبك أو هغصب أي ست تعيش معايا! كل اللي حابب أقولهولك إنك كنتِ وما زلتي أمانة عندي بحميكي وبحافظ عليكي ولحد آخر يوم في عمري هفضل أحميكي حتى لو طريقنا مبقاش واحد.
تركها تبكي مُر البكاء، ذهب غاضباً ليتحدث مع حور التي وقفت تبكي أمام البحر هي الأخرى، رقت طباعه لصوت بكائها، غمغم بقلق:
- حور إنتِ بتعيطي! في إيه إنتي كويسه؟ إيه اللي حصلك؟
كفكفت دمع عينها بسرعة، هتفت بخنقة:
- لا أبداً دا بس هوا البحر بيعملي حساسية.
= هو أنا يعني معرفكيش! عيب عليكي دا إحنا عشرة عمر، إنتِ زعلانه مني صح؟
-مفيش حاجه يا أكرم لو سمحت أنا عندي شوية شغل لازم أخلصه قبل ما أمشي.
= هتمشي تروحي فين؟ هتسيبي المخيم!
-آه للأسف لازم أسيب المخيم، حاسه بإرهاق وتعب مش هقدر أكمل بالوضع دا لازم أمشي.
=حور أنا آسف.. أنا مش متظبط الأيام دي خالص حقيقي بعتذرلك من كل قلبي ونفسي إنك تقبلي إعتذاري وتسامحيني، إنتِ قلبك أبيض وعارف إنك هتغفري لأخوكي مش إحنا طول عمرنا زي الإخوات!
-إخوات! آه طبعا يا أكرم، صدقني مفيش حاجه أنا بخير ومش زعلانه منك، بعد إذنك عشان ألحق أخلص وأمشي.
أمسك أكرم بكفيها بحنان أخويّ، هتف بصوت هادئ:
- عشان خاطري متمشيش، أنا محتاجلك جمبي. إنتِ مش شايفه حالة هديل عاملة إزاي!
لمساته الدافئة أشعلت قلبها المنطفئ من جديد، لم تسمع ما قاله من فرط مشاعرها التي اندفعت لقلبها تزاحم بعضها البعـض، هزت رأسها بالموافقة دون أن تجيبه بصوتها، شكرها بفرحة ثم عاد إلى زوجته تاركًا حور تهيم بحبها الخفي له!
بعد أن اعتدلت وجهة هديل في الحياة ووصل إلى بصرها وبصيرتها الصورة الحقيقية للأشخاص من حولها لن تحتمل شعور الفقد مرة أخرى خصيصاً إن كان هذا الفقد لإنسان مثل أكرم قلما يوجد في تلك الحياة المزيفة.
بقلة إيمان وعقل متهور عزمت هديل على التخلص من الحياة برمتها، ذهبت إلى البحر لتحتضنه بشوق جثة متحركة للموت والسكون!
بحث أكرم عنها بالخيمة والجوار لكن أثرها إختفى من الناحية كلها وكأنما خلت الأرض منها، راح يصرخ بإسمها كالمجنون، تجمهر الناس من حوله وهم كل شخص لديه همة وشهامة بمساعدته في البحث عنها، لكن جميع محاولاتهم باءت بالفشل!
رآها أحد الأشخاص مغشياً عليها بجوار البحر فحملها للفريق الطبي المتواجد دائما في كل رحلات الإستكشاف ، إستطاع إنقاذها بأعجوبة بعد أن ضاقت أنفاسها من مياه البحر التي ومن حسن حظها أنها لم تتعمق به كثيراً، كُتبت لها النجاة من تلك المحاولة المتهورة للتخلص من حياتها!
ظلت تهتف بإسم أكرم فور إستيقاظها، وجدته بجوارها باكياً، محيطاً إياها بجسده بإحتواء وحنان بالغ.
مرت بعض الأيام بعد تلك الحادثة وتعلق هديل بأكرم بات تعلق مرضيّ، لا تسمح له بمغادرتها حتى لو لدقائق، لم يفهم حالتها تلك فظن أنها إنتكاسات نفسية لصدمتها العاطفية الشديدة مؤخراّ، لم يخطر بباله أنها تريد منه البقاء وتخشى أن تخبره بما يحدث بقلبها عندما يكون بجانبها!
لم يشعر أكرم بمغادرة حور للمخيم لإنشغاله بهديل، بذل قصارى جهده لكي يعيدها للحياة مرة أخرى، استجابت ببطئ لمحاولاته المستميتة، جلس بجوارها على مقاعد صغيرة أمام البحر، سألته بصوت منخفض:
-ممكن أعرف الحكاية كلها ومن الأول؟
=حكاية إيه يا هديل؟
-إنت وماجد و.. وأنا يا أكرم.
ضاق صدره لكنه عمل على أخذ الحديث لمسار هادئ، غمغم بتوتر:
-عايزة تعرفي إيه بالظبط يا هديل.
تنحنحت بتوتر بالغ قبل أن تقول بحذر:
-كل حاجه من أول الموضوع خالص، صداقتك بيه، معرفته بيا، معرفتك إنت بيا!
تنفس بعمق قبل أن يجيبها محاولاً أن يحافظ على كلماته التي تخرج من فمه كي لا يعيدها لحالتها السابقة:
-مالوش لزوم صدقيني متدوريش في اللي فات وخليكي في اللي جاي إقطعي الصفحة دي وارميها في أقرب سلة قمامة.
=أكرم لو سمحت دا طلبي الوحيد منك دلوقتي، أصلا كنت هحاول أفهم بأي طريقة لكن أنت حابه أسمع منك إنت ممكن؟
-تمام يا هديل، أنا طول عمري عايش مع أهلي بره مصر وحصلت ظروف سيئة جداَ مش حابب أفتكرها واللي بسببها خسرت أبويا وأمي للأبد!
اضطريت أرجع مصر وكنت وحيد جداً والدنيا سوده في عيني فوق ما تتخيلي، عدت عليا الأيام والليالي بصعوبة لحد ما أخدني إبن عمي وعرفني على صحبته اللي كان من ضمنهم ماجد!
الظروف أجبرتني إني أفضل طول الوقت معاهم عشان أحاول أنسى وجعي، شوفتك يا هديل، بنت جميلة مميزة تشد أي عين ليها، ضحكتك ورقتك وصوتك الهادي وسط أصحابك في كافيه المول أسروني، كنت حافظ مواعيدك وحافظ حركاتك، بتحبي إيه، بتكرهي إيه، بتاكلي إيه، الفراولة اللي بتعملك حساسية، والجرح اللي مبتحبيش شكله في إيدك اليمين، إحساسك بالبرد في عز الصيف، لونك الأبيض اللي مبتحبيش تلبسي غيره وممكن تدخليله أي ألوان تانية لكن يفضل هو الأساس... هاه أقول كمان ولا كفاية كدا!
كنت بكتب حروف إسمك في كل مكان أروحه، كان حبك لقلبي روحه، حياتي في بعدك بتزود في القلب جروحه!
هتفت هديل بانبهار:
- إيه دا؟ أكرم إنت بتقول شعر!
ابتسم بتواضع، غمغم بحب:
-علمتيني كل حاجه تعبر عن الحب.
=حلو أوي أنا بموت في الشعر هستغلك كتير الفترة الجاية عشان تسمعني شعر أو ربما تكتبله لي قصايد مخصوص، انا عايزة باقي الحكاية يا أكرم!
ابتلع ريقه بمرارة، تمتم وهو يضغط على الكلمات بغيظ:
- ماجد... أخد باله إن أنا مهتم بيكي ودايماً مراقبك وبقيت أحب اخرج في الكافيه دا بالذات لأنك بتروحيه مع أصحابك على طول، كان بيتريق عليا ويقول إن أنا وقعت في فخ الحب ويا عيني عليا وكلام من بتاع الشباب دا، أنا مصرحتش ليهم بأي حاجه وسيبته يعيش الدور، كان وما زال جوايا قناعة خاصة إن الراجل مينفعش يخلي حبيبته أو مراته أو خطيبته أو أي ست تخصه لهو حديث أمام الشباب ولا تكون حتى محطة إعجاب ممكن تدوس فيها أي رجل!
غصة قوية اجتاحت جنبات قلبها بسبب فهمها الخاطئ لشخصية محبوبها المخادع وعلى نقيضه من كانت تبغضه ليتضح أنه شخص نبيل على عكس ما كانت تتوقعه أن يكون، قالت بخنقة:
-أد إيه أنا إنسانه غبية، ومقدرتش أفهم الفرق بينك وبينه، كنت متخيله إنه أحسن حد دخل حياتي وهيحافظ عليا وهيحبني أكتر من نفه زي ما أنا حبيته أكتر من نفسي!
لم يحبذ أن يستمع إلى تلك الكلمات التي يعلم جيداً بأنها الحقيقة لكنها حقيقة مؤلمة بالنسبة له، صاح بصوت حزين:
-الخداع مقبرة الحب! بس أنا بقول إنه مقبرة الروح الخداع دا أسوأ جرح ممكن القلب يُصاب بيه، المهم بعدها بفترة عرفت إن ماجد إتراهن معاهم عليكي وعليا وإنه يقدر يخليكي تقعي في حبه قبل ما أنا أفكر حتى ألمح لك، إتخانقت معاهم كلهم لما عرفت وزي ما قريتي كدا، كانت الخناقة آخر اللي بيني وبينهم كلهم لكن ملقتش أي طريقة أقدر أنقذك بيها منه غير إني أتقدم لك وأطلب إيدك وتبقي مراتي ويبقى من حقي إني أكون جمبك وأحميكي بصفة رسمية مُباحة!
امتلأت مقلتيها بالعبرات التي أبت الهبوط على ذلك الندل، تنهدت بعمق قبل أن تهتف قائلة بأنين:
- أنا حابه أقوم أروح الخيمة أرتاح شويه ممكن!
شعر بمقدار الألم الذي يتغلغل بأعماقها، ليس سهلاً أن يُطعن العاشق بخنجر مسموم من يد معشوقه، تلك اليد التي امتدت يوماً بالحب تمتد الآن لتنتزعه بقسوة لا يضاهيها أي شعور سئ بالحياة.
بعدما إنقضت الأيام بالمخيم عاد أكرم إلى شقته بصحبة زوجته وقد تقربا إلى بعضهما وذابت بعض الكتل الجليدية بينهما، لكن من الممكن إطلاق كلمة الصداقة على تلك العلاقة التي ما لبثت أن تحسنت منذ فترة قليلة.
أنت تقرأ
"لمن تدق القلوب"
Romanceأدركت هديل أنها تقبع بأحضان أكرم وأنها نادته بإسم ماجد للتو، نهضت تترنح، يصرخ صوتها بوهن: - إبعد عني.. إنت إزاي تمسكني بالشكل دا إنت إتجننت وسع كدا من طريقي عايزه أروح أوضتي! أفسح لها أكرم المجال بقلب منكسر لم يقوى على قول أي شئ فماذا يقول والعتاب ل...