وداع أخير

23 6 22
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم...
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
كيف للوداع أن يترك كل هذا الألم بداخلنا،  كيف للوداع أن يطعم أرواحنا ويقتل قلوبنا ... شعور مهين أنك ستبقى دائما تشتاق لشخص إختار الفراق، ستظل دائما تحوم في الشوارع الذي إعتدت التجول فيها برفقة أحدهم، ستناظر صوركما معا، كل الذكريات ستكون سجنا دائما لك...
.
.
.
.
ارتجلنا من السيارة بعدما وصلنا إلى المشفى، بقينا في الخارج قليلا أنا ودانييل ننتظر خروج العم أناكين والخالة دونيا وبرفقتهما جثمان ابنتهما، دقائق قليلة ورأيت العم أناكين يخرج بينما يحمل فوق كتفه الثابوت الذي يحتوي بداخله جثة سكارليت، كان عم سكارليت وإحدى الرجال المقربين من العائلة يساعدونه على حمل ذلك الثابوت، كانت الخالة دونيا تمسكها إمرأة، كانت تلك المرأة مطأطأة رأسها للأسفل، وعندما رفعته شعرت بقواي تخور، عدت للوراء وأمسكت بمرفق دانييل الواقف بجانبي...كل شيء كما تركته في السابق،هيئتها،شكلها،وجهها،هي هنا مجددا...

"أمي... " استدار دانييل نحوي ممسكا بي، هو ناظر الجهة التي كنت أناظرها أيضا... كانت تلك المرأة والدتي، أمي التي لم أراها منذ سنتين... أعينها وضعت على خاصتي، رأيتها تراقبني بينما تركت كتف الخالة دونيا وبدأت تقترب ناحيتي، سارعت إتجاهي وأحتضنتني...

"أرثر، عزيزي أرثر، إفتقدتك يا صغيري ، لماذا تركتني وحيدة أنا وشقيقتك، أتعلم كم كان فراقك صعبا..." هي أجهشت بالبكاء، وهنا كانت تلك النقطة الأخيرة التي جعلت من كأس الصبر خاصتي يفيض انهرت بين أذرعها، أبكي، أنتحب، أخرج كل ما سجنته من كرب وحزن داخل صدري، حضنها كان دافئا كما السابق، إشتقت لها... إفتقدتها كثيرا...

"أمي، أنا.. أنا... " هي ربتت على ظهري بيديها، شعرت بدفىء كفها ينتشر عبر ظهري، عانقتها بقوة، أروي شوقي... لم أراها منذ سنتين...

"لا بأس أرثر، لا بأس صغيري، أنا هنا، سأظل هنا لأجلك دائما، حتى لو قررت البقاء بعيدا عني طيلة حياتك، ستظل والدتك برفقتك لا بأس عزيزي، أعلم جيدا أن قرارك الذي إتخذته كان صعبا، أنت رغبت بالهروب من كل شيء، أعلم جيدا بما تشعر به صغيري، لا بأس كل شيء سيكون على ما يرام همم؟ " صوتها كان حنونا كما السابق، أنا عاجز عن وصف ما أحمله بين أضلعي، ألم، شوق، ضعف، حزن، كرب، ذنب...

"أمي أنا أعتذر لتركك أنت وستيفني"

"لا بأس عزيزي، أعلم، أعلم، حتى ستيفني تعلم جيدا أنك كنت مجبرا لتركنا،لا بأس عزيزي،سيكون كل شيء على ما يرام...هيا عزيزي دعنا نذهب الٱن لدفن سكارليت، يمكننا الحديث فيما بعد، همم؟ هيا عزيزي. " أنا فقط اتبعت أوامرها، هي ذهبت برفقة الخالة دونيا والعم أناكين بينما أنا ركبت برفقة دانييل مجددا... المقبرة التي ستدفن بها، هي المقبرة التي دفن فيها كل أجدادي وأبي وأجداد سكارليت أيضا، يمكن القول أنها كانت مقبرة عائلية نوعا ما، كنت دائما أشعر بالرهبة والخوف عند دخول هذه المقبرة،غالبا ما كنت أرى سراب الموت يتراقص في المكان على سمفونيات من دموع الباكين... عندما دلفنا رأيت أختي الصغرى  تترجل من سيارة العم أناكين برفقة أمي ، لكن عندما حاولت الإقتراب منها ثم سحبي من طرف دانييل لمساعدتهم في حمل التابوت ...حملنا الثابوت أنا ودانييل والعم أناكين والعم كاندل؛العم كاندل إيليوت كان أيضا من الأشخاص المقربين للعائلتين، عائلتي وعائلة سكارليت...وضع الثابوت في أحضان التراب، شعرت برهبة شديدة حينها حين علمت أنها سيغطيها التراب وسيحتضنها هذا القبر االمظلم للأبد ، بدأ العم أناكين بإلقاء التراب برفقة العم كاندل،كانت يدا أناكين ترتجفان بشدة ورأيت الدموع متحجرة داخل مقلتاه،أعلم جيدا بما يحس، خصوصا و أنا الذي سرق الموت مني أعز الناس إلى قلبي و  أولهم أبي، وبينما كنا نلقي بالتراب على جثتها بدأت الخالة دونيا تنهار أكثر، انهارت على جانب القبر تمسك بيديها رَّمْسَ ابنتها ، لم يكن أحد بيننا في صحة نفسية تسمح له بإكمال مراسم الدفن، كانت عيوني تغطيها طبقة زجاجية من الدموع، عيوني كانت مليئة بالدموع والبكاء لكن مدمعي يرفض السماح لمائه بالهطول، لا أعلم إن كان هذا كبريائا أم مجرد عناد، ثم تغطية الثابوت بأكمله بالتراب، كل منا قام بوضع الورود البيضاء على قبرها، هذا وداع أخير بعد لقاء جديد، لقاء بعد فراق، لكن أنا الوحيد الذي كنت قادرا على  الشعور بهذا اللقاء، كان لقائنا مؤلما محزنا مليئا بالحسرة، لم أكن على علم أن اللقاء سيكون أكثر قسوة من الفراق ...ربما كان من الأفضل البقاء بعيدا، وجدت أنني الوحيد الذي استبدلت الزهور البيضاء ب زهور التويلب لأنني أعلم جيدا مقدار حبها لزهرة التويلب ...حسنا، بقينا ما يقارب الساعة أمام قبرها ،  والدها الذي كان يتمسك بإبنه وزوجته من كلا الجانبين وكأنه يستجمع طاقته التي فقدها مع فقدان إبنته، بينما دانييل يقف متصنما ب ملامح مبهمة، فقط يراقب القبر بلا حراك، و الخالة دونيا التي كانت لا تزال منهارة بجانب زوجها تجهش بالبكاء في أحضانه،أما أنا كنت واقفا بجانب والدتي وشقيقتي التي لم أتمكن حتى من النظر لوجهها...في قلبي الكثير من الكلام لكن الشخص الذي يجب أن أخبره بهذا الحديث مات،ومات معه  كل شيء، هي دفنت  لكن الأشياء الأخرى التي ماتت برفقتها لم تدفن كحالها... في النهاية عدنا أدراجنا تاركين إياها وحيدة داخل قبرها... أتذكر جيدا عندما كنت طفلا تساءلت عن شكل المكان الذي لن نشعر فيه بالوحدة، وبعد سنين طوال إكتشفت أن القبر هو الملاذ الوحيد والأخير لكل بشري، هو المكان الذي لن نشعر فيه بالحزن، بالخيبة بفقدان الأمل أو الإشتياق، لن نشعر فيه  بقسوة الوحدة، ولن نشعر ب كَمْ أن الحب مؤلم وحارق... متى تنتهي حياتي وأتوقف عن الشعور بكل هذا الألم والحنين. أنا مرهق و أشعر بأنني تائه...بعد مغادرتنا ألح العم أناكين أن نرافقه لمنزله، عندما حاولت الإقتراب من أختي هي تحركت تاركة إياي واقفا لوحدي ، أعلم جيدا مقدار ألمها أيضا ، كيف وأنا تركتها لوحدها برفقة أمي تجمع شتات عائلتنا لوحدها ، تركتها محملة بأثقال كثيرة ، أعمال أبي الغير مكتملة ، هي غاضبة مني كما أنا غاضب من نفسي ... أخرجت نفسا طويلا من فمي بعدها توجهت برفقة دانييل مجددا....

_ غَيَاهِب_حيث تعيش القصص. اكتشف الآن