سمعنا كثيرا عن وباء الطاعون.. ولو سألنا أي شخص عنه.. فسيجيب باختصار أنه وباء اجتاح العالم يوما وفتك بالملايين.. هذا الكلام صحيح إلى حد كبير بالطبع.. لكنه لا ينقل لنا الصورة السوداوية التي كان العالم عليها في القرون الوسطى.. فالطاعون -أو الموت الأسود كما أطلق عليه- هو على الأرجح أسوأ كارثة في تاريخ البشرية.. وكاد أن يتسبب بانقراضها دون مبالغة.. فقد تسبب بوفاة أعداد هائلة من الناس يصعب حصرها.. لكن الإحصائيات تقول أن الرقم قد يصل إلى حوالي 200 مليون ضحية.. وهو أكبر بكثير من عدد ضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية مجتمعين.
وقد وصلـت ذروة وبـاء الطاعــون فـي الفتــرة 1346-1353 ميلادية.. حتى تناقص عدد سكان العالم كثيرا.. بل أن هناك دراسات تشير إلى أن أوروبا وحدها فقدت حوالي %45 من سكانها.. ويقال أن عدد سكان العالم لم يبدأ بالتصاعد وتجاوز تلك الكارثة إلا بعد 3 قرون تقريبا.
وبالطبع لنا أن نتخيل الكوارث الاقتصادية التي تسبب فيها الوباء آنذاك.. إذ توفي الملايين بسبب الجوع والفقر والانهيار الاقتصادي الذي أصاب جميع أنحاء أوروبا.. حتى اقتربت الكثير من الدول الأوروبية إلى الانهيار الكامل.. فكانت الكنائس تصرخ طوال الوقت أن نهاية العالم باتت قريبة من هول الأحداث.. خاصة وأن جثث الموتى كانت تملأ الشوارع بمشهد يقشعر له البدن كما تقول الكتب التاريخية.
وقد تبين من الدراسات الحديثة أن سبب الوباء كان نوعا من الباكتيريا يطلق عليه اسم (Yersinia Pestis).. هذه الباكتيريا كانت تحملها البراغيث التي تعيش على الفئران.. والتي كانت بدورها تعيش في أقبية سفن الشحن التي تسافر من آسيا إلى أوروبا.. أي أن شرارة المرض انطلقت فعليا من آسيا.. إذ حصد المرض في الصين وحدها 25 مليون ضحية.. مع ملايين أخرى لا تحصى في دول أخرى.. ابتداء من الهند وبلاد ما بين النهرين (العراق حاليا) التي خسرت ثلثي سكانها.. إلى مكة واليمن ولبنان وسوريا ومصر التي خسرت ما يقارب %40 من سكانها!!!.. فبدا احتواء الوباء مستحيلا.. ومع غياب أي علاج.. ومع عدم معرفة أسباب الوباء آنذاك.. كان كل إنسان يترقب الموت فحسب.
أما بخصوص أعراض الطاعون.. فكانت البداية بورم بسيط يظهر على الفخذ أو على الإبط.. ثم يبدأ ينتفخ أكثر ليصبح بحجم البيضة تقريبا!!!.. لينتشر بعدها سريعا في الجسم بأكمله.. وبعدها تتغير الأعراض لتظهر البقع السوداء على الجسد.. ويبدأ يتقيأ المريض دما باستمرار مع حمى شديدة تنتهي بالوفاة.. وتظهر أيضا أثناء تلك الأعراض (غرغرينا الأطراف).. أي تعفن أطراف الإنسان.. فتموت خلايا الجسد ويتحول الجلد إلى اللون الأسود.. وقد يبدو للقارئ أن هذه الأعراض تستغرق وقتا طويلا.. لكنها في الواقع لا تتعدى أسبوعا واحدا منذ ظهور أول الأعراض وحتى وفاة المريض!!!.
لقد ظن الناس أن سبب الوباء هو الهواء الفاسد فحسب.. وربما ساعد على هذا الاعتقاد امتلاء شوارع أوروبا بالقاذورات في ذلك الزمن.. إذ لم يهتم الناس بتنظيف الشوارع قبل القرن التاسع عشر تقريبا.. فكانت تلك القاذورات مرتعا للحشرات والفئران والروائح الكريهة.
وبالطبع اجتاحت العالم فوضى لا يمكن تخيلها آنذاك وسط جهل العالم بأسباب الوباء وأعراضه.. إذ قامت السلطات في بعض الدول بحملات إعدام واسعة النطاق على كل من يشكون بإصابتهم بالوباء.. بل أن بعض السلطات قامت بإعدام من يمتلئ وجهه ببثور حب الشباب ظنا منهم أنه يحمل العدوى.. وحتى الذين هربوا من المدن لتجنب الموت لقوا حتفهم من شدة البرد والجوع بعد أسابيع قليلة.
وجدير بالذكر أن فكرة (الحجْر الصحي) عرفت في تلك الفترة في مدينة (دوبروفونيك) (Dubrovnik) في (كرواتيا) بعد انتشار الوباء فيها بصورة مخيفة.. إذ استنتج حينها الناس فكرة الابتعاد عن المصابين وعدم الاقتراب منهم.
وهكذا أخذ الوباء دورته وقضى على ملايين البشر.. قبل أن تكتسب الأجيال التالية المناعة اللازمة.. ليندثر الوباء تماما في زمننا الحالي.. خاصة مع الرعاية الصحية والاهتمام في البيئة ومكافحة القوارض التي توليها دول العالم اهتمامها.
بقي أن نذكر أن الطاعون ضرب أوروبا وبعض دول العالم في قرون لاحقة أيضا.. آخرها في القرن التاسع عشر.. وهو يعتبر الوباء الوحيد في تاريخ البشرية الذي وصل إلى كل بقاع العالم.. حتى قارة أمريكا عانت منه ولكن بدرجة أقل في الفترة 1900-1904.. إذ لم يتجاوز عدد الضحايا آنذاك بضع مئات.
أنت تقرأ
وراء الباب المغلق
Historia Cortaعزيزي القارئ .. كانت فرحة إصداري الأول لا توصف عام 1999.. بل ولم أكن أصدق نفسي وأنا أحمله بين يدي وأتصفحه عالما أنه بمثابة الحلم الذي تحول إلى واقع .. وآملا أن يكون إضافة للمكتبة العربية كونه يتناول بعض المواضيع العلمية والتاريخية والثقافية الغريبة...