٢٩..في ورطة

817 57 31
                                    

في قصر الإيجمان..يتمطى ياغيز في سريره..يفتح عيونه على مهل..ينظر الى الساعة المعلقة على الجدار..انها تشير الى الثامنة و النصف صباحا..استوى جالسا ثم مد يده ليلتقط هاتفه الموضوع فوق المنضدة بقربه..ألقى نظرة على عناوين مواقع التواصل الاجتماعي..ثم أعاد الهاتف الى مكانه..لا جديد يذكر..كل المواقع تتناقل ذات الأخبار.."عائلة إيجمان توشك على إعلان إفلاسها" " تراجع رهيب في مبيعات مجوهرات دار الإيجمان" " إسم عائلة الإيجمان صار في الحضيض منذ إقدام حازم إيجمان على الانتحار منذ ستة أشهر" "زير النساء ياغيز إيجمان يواصل لهوه و مجونه ضاربا بوضع عائلته الصعب عرض الحائط" "فضائح بالجملة في عائلة إيجمان..ابنة ظهرت من العدم..فض شراكة بين أبناء العم..و وضع مالي متأزم"
..كلها عناوين متكررة و لا جديد فيها..و كلما قرأها ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة لا حياة فيها..يرفع عيونه نحو صورة أبيه المرحوم..يغادر سريره..يسكب لنفسه كأسا من الويسكي يرفعه و يقول:
_ في صحتك يا أبي.
ثم يفرغه في جوفه دفعة واحدة..يمشي بخطوات ثقيلة نحو الحمام..يخلع ثيابه و يقف تحت مرش المياه..يستحم و هو يصفر و يغمغم بكلمات غير مفهومة ثم يعود الى الغرفة..يرتدي ملابسه و ينزل الى قاعة الأكل..يجد طعام الفطور في انتظاره..يرتشف قهوته..يقترب منه صالح و يقول:
_ ألن تراها اليوم أيضا؟
يجيبه:
_ هل مربيتها معها؟
يقول صالح:
_ بلى.
يسأله:
_ هل تحتاج الى شيء؟
يهز صالح رأسه بالنفي. فيغادر ياغيز  ثم يركب سيارته و يذهب الى المعرض..في الطريق..يستعيد ياغيز ذكريات ذلك اليوم الذي كان من المفروض أن يكون أسعد يوم في حياته و الذي تحول الى كابوس مرعب ألقى بظلاله عليه طيلة ستة أشهر كاملة..ليلتها خسر أباه..و خسر المرأة التي أحبها..و خسر نفسه معها..لقد تخلت عنه في أكثر وقت كان يحتاج اليها فيه..و أثبتت له بأنها لم تحبه يوما و لم تكن أهلا لذلك الحب الكبير الذي خصّها به..لقد قرر منذ ذلك اليوم بألا يسأل نفسه لماذا فعلت ذلك و لماذا ذهبت و اختفت فجأة من حياته لأنها لو كانت تهتم لأمره و لو قليلا لكانت أوضحت أسباب تراجعها عن الزواج منه على الأقل..قد تكون أزعجتها قصة ابنته التي ظهرت فجأة..أو ربما خشيت أن يعرف الناس بأنها هي التي قضت معه ليلة مقابل المال..لا يهم..و لا يعنيه ذلك..و لن يكلف نفسه عناء السؤال..تكفيه حقيقة أنها لم تحبه يوما و لم تستأهل حبه الكبير..نظر الى نفسه في المرآة و ابتسم بسخرية و هو يتذكر مراسم دفن أبيه..يومها..كان يقف في المقبرة..و يراقب جثة  أبيه و هي توضع في مكانها الأخير..كان جامدا و صامتا و كأنه تمثال منحوت من الصخر و لا حياة فيه..لم يبك..و لم تذرف عيناه دمعة واحدة..رغم أنه كان حزينا من أعماقه..فحازم رغم كل علله و أخطائه يبقى أباه..و طبيعي أن يحزن لفراقه..انتهت مراسم الدفن و وقف يتقبل التعازي..و ابن عمه جلال كان يقف بجانبه..كان يمد يده ليصافح المعزيين و يومئ برأسه دون أن يجيب على أحدهم..و مازال يتذكر اقتراب زينب منه..صافحته و قالت:
_ تعازينا الحارة ياغيز..قلبي معك..ليرحم الله أباك و ليكن مثواه الجنة.
لم يجبها..فاقتربت منه أكثر و همست:
_ لا أعلم مالذي جرى بينكما حتى اختفت هزان بتلك الطريقة من الفندق..لكنها الآن في المطار و تستعد للسفر لا أدري الى أين..أرجوك صهري..أوقفها و لا تسمح لها بالذهاب..أنتما تحبان بعضكما و ..
قاطعها عندئذ بهدوء:
_ لن أفعل..فلتذهب أينما تشاء..لن أوقفها..من يرحل دون سبب لا يستحق عناء محاولة اثناءه عن ذلك..أختك تخلت عني بإرادتها..و تركتني في أكثر وقت أحتاجها فيه..لهذا لن أخطو خطوة واحدة لأجلها..و لو سمحت..توقفي عن مناداتي بصهري..أنا لست صهرك..أنا ياغيز..ياغيز فقط.
لم تجد زينب يومها كلمات تقولها له..فإكتفت بالانسحاب و المغادرة.
و لم يكن يومها يدّعي البرود أو اللامبالاة..بل كان كذلك فعلا..و فضوله لم يثار أبدا..لم يكن مهتما لمعرفة الوجهة التي ستقصدها..و لا للحاق بها..و لا لسؤالها عن الأسباب..و كأن ذلك القلب الذي يشتعل بين ضلوعه بحبّها تحول فجأة الى رماد و لم يعد من أثر له في صدره..ربما كان هو الألم من فعل به ذلك..ربما هي الخيبة..ربما هي الصدمة..لا يدري..و لا يعنيه أن يعرف..لن يحلل و لن يحاول أن يفهم..لا داعي لذلك..عندما تدرك بأنك تبذل مجهودا و تتعب نفسك و تسرف في اظهار مشاعرك من أجل شخص لا يستحق ذلك يموت قلبك و يستيقظ عقلك و تنطلق مرحلة أخرى من حياتك لا تشبه سابقاتها..توقف ياغيز بسيارته عند الإشارة الحمراء..رن هاتفه فرد قائلا:
_ ألو أويكو..مالأمر؟
أجابت:
_ سيدي..السيد جيريمي ينتظرك في المعرض..لقد وصل منذ نصف ساعة تقريبا.
رد:
_ حسنا..أنا في الطريق.
قالت أويكو:
_ سيدي..هناك أمر آخر..السيد جلال هنا..و يريد أن يلتقيك.
ابتسم ياغيز و أجاب:
_ حقا؟ و ماذا يريد ابن عمنا العظيم؟ ألم يكتف بفضّ الشراكة التي كانت بيننا؟ هل هناك مصيبة أخرى يريد انزالها على رأسي؟
صمتت أويكو و لم تجد ما تقوله له فتأفف بضيق و قال:
_ أنا قادم و سألتقي كليهما.
ثم أنهى المكالمة و واصل القيادة.
                 ****************
في منزل شامكران..استيقظت زينب على صوت طرقات ملحّة على الباب..فتحت فوجد رجلا يقف أمامها..سألته بقلق:
_ خيرا ان شاء الله؟
أجاب الرجل:
_ أنا عدل تنفيذ..لدي هذا التبليغ من المحكمة بحق السيدة فضيلة شامكران.
قطبت زينب جبينها و سألت:
_ عفوا؟ هل أنت متأكد؟ ما محتوى هذا التبليغ؟
رد عدل التنفيذ:
_ هناك شكوى بحقها بسبب أموال متخلدة بذمّتها و ان لم تدفعها في ظرف ثلاثة أيام سيتم الحجز على هذا المنزل بموجب التنازل الموقع من قِبَلِها.
صاحت زينب:
_ ماذا تقول؟ هذا لا يعقل..لا بد من وجود خطأ..أرجوك..تأكد جيدا مما تقوله..كم قيمة المبلغ المطلوب و أنا سأسدده؟
أجاب:
_ مئة و خمسون ألفا.
ابتسمت زينب و قالت:
_ هذا مبلغ بسيط..انتظرني هنا و سأحضر لك المال..لقد أرعبتني..ظننت أنه مبلغ كبير..مئة و خمسون ألفا ليس بالمبلغ الكبير.
همت بالابتعاد عندما قال الرجل:
_ انها مئة و خمسون ألف دولار يا آنسة.
شحب وجه زينب و شعرت بأنها لم تعد قادرة على الوقوف..اتكأت بيدها على الحائط لكي لا تقع أرضا..أعطاها الرجل التبليغ و طلب منها أن توقع على ورقة الاستلام ففعلت بيد مرتعشة و أغلقت الباب بعد ذهابه..دخلت الى غرفة أمها التي كانت ماتزال نائمة..نادتها لكنها لم تستفق..لكزتها بيدها و هي تصيح:
_ أمي..استيقظي..هيا..أريد أن أتحدث معك.
فتحت فضيلة عيونها بصعوبة و سألت:
_ خيرا ان شاء الله؟ ماذا تريدين مني منذ الصباح الباكر؟ لماذا توقظينني؟
رمت زينب الورقة على وجه أمها و هي تقول:
_ انظري الى مصائبك التي لا تنتهي..انظري الى ما أوصلتنا اليه بسبب لعبك المتواصل للقمار و احتساءك للمشروب..ماذا أفعل أنا الآن؟ أخبريني..كيف سأتخلص من هذه الورطة التي أوقعتني فيها؟
استوت فضيلة جالسة و تأملت الورقة لوهلة قبل أن ترفع عيونها نحو ابنتها و تقول بصوت خافت:
_ أنا آسفة يا ابنتي..أنا كنت أعتقد..بأنني..سأفوز لا محالة..و كلما قررت أن أتوقف عن اللعب..لا أستطيع..لن تسمحي لهم بإدخالي الى السجن..أليس كذلك؟ أنا أمّك و أنت لن ترضي لي ذلك..أنا..
قاطعتها زينب بعصبية:
_ اصمتي لو سمحت..لقد سئمت أفعالك هذه..لم أصدق اللحظة التي تمكنت فيها من شراء هذا البيت الذي كنا مستأجرين فيه فأصبحنا نملكه بعد أشهر من العمل..و ماذا فعلت أنت؟ فرطت فيه بهذه السهولة..لماذا أمّاه؟ لماذا؟ لم يكن ينقصنا سوى إدمانك على القمار..فعلا هذا ما كان ينقصنا..ماذا سأفعل الآن؟ ها؟ من أين سآتي بهذا المبلغ الكبير؟ من أين؟ اللعنة على هذا..اللعنة.
انهارت زينب على الكرسي القريب منها و وضعت رأسها بين يديها..لقد أيقنت الآن بأنها ارتكبت خطأ كبيرا عندما سجلت البيت بإسم أمها..لكنها أرادت أن تشعرها بالأمان بعد كل ما عانتاه خاصة بعد انهيار منزلهما القديم..و هاهي تكافئها بالشكل المناسب..بعد سفر هزان..حاولت فضيلة أن تقنعها بأن تأخذ مكان أختها في حياة و قلب ياغيز..لكنها رفضت بصورة قطعية..لسببين رئيسيين..أولهما أنها كانت تعي جيدا بأن ياغيز يعشق هزان و لم و لن يُشفى منها حتى و ان كانت قد تركته و تخلت عنه و ليست مستعدة أن تحل محل أختها أبدا..و ثانيهما أنها تأكدت بأن المشاعر التي كانت تكنها لياغيز في السابق لم تكن سوى مشاعر طفولية عابرة أما الحب الحقيقي فهي تعيشه الآن مع كرم ذلك الدكتور الذي ساعدها على تخطي أزمتها النفسية و عبّر لها عن اعجابه بها و خرجا معا طيلة الأشهر الماضية حتى صارت واثقة بأنها تحبه هو و لا تريد غيره..أما قصة القمار عند فضيلة فقد ابتدأت بلعب الورق مع الجارات طوال النهار..ثم تطور الأمر الى الذهاب الى منزل تجتمع فيه النسوة اللواتي تلعبن القمار..و جلسة تجر جلسة..و ليلة تليها ليلة..و فضيلة تغرق أكثر فأكثر..و رغبتها المستميتة في الفوز و في أن تصبح ثرية هي التي تعمي عيونها و تغريها باللعب على مبالغ كبرى..الى أن انتهى بها الأمر الى اللعب على المنزل الذي اشترته زينب بتعبها و عرق جبينها..
بقيت زينب صامتة فقالت فضيلة:
_ لماذا لا تخبرين هذا الدكتور الذي تخرجين معه؟ اطلبي منه أن يساعدنا..و ان كان يحبك فعلا فسيساعد أمك..أليس كذلك؟
رفعت زينب رأسها و رمقت أمها بنظرة حادة ثم أجابتها بعصبية:
_ و ماذا تريدينني أن أقول له؟ هل أخبره بأن أمي ورطتني و بأنني أحتاج مبلغا كبيرا من المال لكي أخرج من هذه الورطة؟ بأي وجه سأطلب منه المساعدة؟ اياك أن تفكري في هذا الحل مرة أخرى..أخرجي كرم من حساباتك يا أمي.
صمتت فضيلة لوهلة ثم سألت:
_ و هزان؟ لماذا لا تطلبين منها أن تساعدنا؟ ألست أختها المدللة و المحبوبة؟ أتراها تتأخر عليك؟
انتفضت زينب واقفة و ردت:
_ و هل هي مجبرة على ذلك؟ أنت أمي أنا و لست أمها هي..و هي لست ملزمة تجاهك بشيء..ثم لا تنسي بأنني لا أعرف أين هي و لا ماذا تفعل الآن..صحيح أنها تواصلت معي بعض المرات لكنها لم تخبرني بشيء..يكفي هزان ما عانته بسببنا أنا و أنت.
                     ****************
في جزيرة مايوركا الاسبانية

مِن أجل أُختيحيث تعيش القصص. اكتشف الآن