وها أنتَ ذا مجدّداً، كرّرتَ غلطاتِك، غرقتَ في خطاياكَ الشنيعة، كَرِهتَ نفسكَ ومن حولك، كرهتَ ماضيكَ وحاضركَ وابتأستَ بشأنِ مستقبلك، أفكاركَ ثقيلةٌ حدَّ إلصاقكَ في قعرِ خيبتك، لستَ وحيداً بل أعمى البصيرة، حولكَ كثيرون، لكنّكَ كالمتعامي مَغشِيِّ القلبِ فاتحٌ عينيك، مقفلٌ قلبكَ بسلاسلَ من أفكارٍ لا تنتهي، مُمازَحة، ضحك، وكلامٌ لا يتوقف، بِغزلٍ وشعرٍ وأشغال، أو بذنوبٍ تجرفك، قلبكَ محصَّنٌ منيع، لا يصلُهُ أحد؛ ولا أنتَ حتّى لك سُلطةٌ عليه.
تجرُّ أخطاءكَ الثقيلةَ تاركةً وراءكَ أثراً في أيامك، وصلتَ للهاويةِ مجدداً، يالروعتها! هاويتكَ الخاصّة، ها هنا حيثُ تعيدُ ترتيبَ نفسك، تَرجِعُ لنقطةِ الصِّفر خاصتكَ بكلِّ عيوبها.
نسمةُ هواءٍ لفحت جلدك، لمَ لا ترتدي شيئاً؟ أهذه كنايةٌ عن عودتكَ وحدكَ تاركاً كلَّ شيءٍ استطعتَ تركه؟ أم أنّك لا تستحقُّ حملَ شيءٍ معك؟ لا يهمُّ الآن.
تجلسُ على حافَّةِ الجرف، رِجلاكَ تتدلَّيان، تؤرجحهما جيئةً وذهاباً، عيناكَ لا تزالان مغلقتين بتلكَ العصابة، انزعها، لا أحدَ هنا ليحكمَ عليك، أنتَ وحدك، وأنا.
تسحبُ طَرَفَ عصابة عينيكَ لِتَحُلَّ العقدة، تنزلها بهدوءٍ وتبصر، تبصرُ ما تستطيع.
المكانُ على حاله، أولستَ تحبُّهُ هكذا؟ تديرُ رأسكَ يمنةً ويسرة، الضبابُ كثيف، كثيف جداً كحقلِ قطن، تَرى هذا نتيجةً لنور البدر، أيحلُّ بياضٌ وسط سوادٍ كهذا بسهولة دوماً؟ هل كان الأمر طوال الوقت بهذه السهولة؟
يداك. تعيدهما خلفكَ ليثبِّتاكَ وتُميل جسدكَ ناحيتهما، هما ما يصلب ظهركَ الآن، أوليسَ مريحاً الشعور بهما حرتين؟ تشعر بخفَّتهما أولست كذلك؟ بلى، أنت تشعر بهذا، أعرفك.
ارفع رأسك وانظر، لستَ تفضل القمر بدراً، تكره النور، كلا، بل تكره النور هنا، في مكانك الخاص، أنتَ تأتي لهذا المكانِ كي يصمتَ عقلك، لتهدأ أفكارك الصاخبة، ذكرياتُك، أصواتُك الداخلية الصارخةُ فيكَ كلَّ حين، أيستطيع البشر إيقاف تفكيرهم حقاً؟ إن كانوا يفعلون، فبماذا يفكرون حينها؟ تساءلتَ كثيراً: "كيف من الممكن أن يصمتَ العقل؟" لطالما رأيتَه كآلة شديدة الانشغال دائمة الحركة، بالنسبة لك، عقلك صاخب أكثر من قلبِك... "قلبُك".
القمرُ ليسَ وحيداً هنا، أولستَ تراها؟ أدر عينيك، الغيومُ سوداءُ قاتمة، غيومك، ربما، مجرد أفكارٍ طَفَت، لا يُهمُّك، لكنها تُضفي بُعداً جماليّاً محبَّباً لك هنا.
هيا الآن، أغمض عينيك. واحد، إثنان، ثلاثة، رأسك مرتفع، عيناك أغلقتَهما، وهواءٌ باردٌ جداً دخل رئتيك، أبقه هنا قليلًا، هكذا تشعر دومًا، أولستُ محقًا؟ عقلك دائمًا ممتلئٌ كرئتيك المتضخمتين الآن، لكنّ الأفكار ليست باردة كهواء مكانك المفضل، الأفكار حرارتها عالية، تحرق عقلك فيلسع روحك، تذيبه ببطءٍ وتبقيكِ خاوياً سوى منها، لذا تعود هنا كلما تعبت، تستجمع طاقتك لتتمكن من المواصلة.
هيا، ازفُر، تعرف القوانين، شهيق بطيء، وزفير أبطأ، أحسنت، كم هي جميلة هذه الحرية، حريتك من نفسك، القشعريرة اصبحت باديةً على جسدك.
تمدد، ظهرك ملاصقٌ للأرض، يداك ممدوتان من جانبكَ إلى أعلاك، مرفوعتان كعلامة استسلامٍ للاشيء.
هيا، لم يبقَ غيرها، السلاسلُ في قدميك، تنزعها لتهوي عميقاً، سحيقٌ عمق هذه الهاوية، بماذا تذكرك؟ إحدى روايات أجاثا كريستي: "لماذا لم يسألوا إيڤانز؟"، هذا أيضاً لا يهم.
تسبح في فضاء عالمك الآن.
البرودة بدأت تسري في سائر جسدك، وحدك، تحب الوحدة جداً، كلما نسيت كم أو لمَ تحبها، استدعتك لتتذكر، أنت لا تتأذى في الوحدة، ولا تتعب، لا أخطاء تندم عليها، وكم تكره الأخطاء، ولا عواقب ولا إزعاج.
أغلق عينيك، أو تأمل السماء، أبعد ذلك البدر وضع مكانه هلالاً، يا لها من طمأنينة.
سأتركك الآن، ابقَ هنا ما أحببت، وعد لهم حين تريد، إن أحببت.