(5)

3 1 0
                                    

لقد مشيت عبرهم بينما أحمل وجهي الملطخ، بلطخةٍ عنيفة، تُقهقِر موقفي. ليس مُلطخاً مثل الأحمرار الموجود على ملابسي يا أختي.. كلا.. بل انه مُلطخ بالمأساوية، وبالضيقة التي قفزت على صدري عنوة، لقد كانت تلك الدماء دماءُ شهواتي اساساً. نظراتي الفارغة قبعت على الأم التي تجثو بجانب ابنها الصغير، وهي تبحلق فيني حيناً بصدمة وغضب في الوقت ذاته، وحيناً لصغيرها وأخيه بشهقات مستعرّة.
‎لكن ما لم اتنبّه إليه، حين استلت عصا خشبية من جانبها، واخذت تلوح فيها برَثيَة أمامي، ما الذي يجري يا أختي؟ هل تظن انها ستنهي عليّ بحركتها هذه؟ أنا لا افهمها.. كيف لمخلوق دنيء أن يستمر الكفاح ومؤشرات نجاحه أقلُّ من الصفر؟ هذا مضحك نوعاً ما. في الحقيقة، أنا لا اخفي شعوري بالأسف، إلا انّني فعلت و انتهى الأمر، وبقي الماضي يُهرَس في أنياب الموت.

وبعد هنيهة، شعرتُ بنظراتٍ كالجمر تتَقِدُني بِلظاها.. منها.. من شقيقتهم الكبرى، ريس. حاولت تحليل الوضع، والدتها تثابر النيل مني و أنا غارق في بقايا الدماء و ابتسم لها.
صرخت مِلئ رئتيها " أيُّها الوغد ماذا تفعل " حتى ظنّنت اني سمعت جلجلة خطوات حيوانات الغابة تهرب فزعاً. رفعت كِلا كتفي بعدم علم، ثم هرعت هي إلى أخويها تحاول إسعافهم، اخبرتها.. لا جدوى، أجسادهم فارغة الآن، وبعدها، سَكنت بلا حراك، مشيتُ نحوها بخطى وئيدة، هل استسلمت أو ماذا؟ بؤرتيها مفتوحتين على مِصراعيهما ودموعها تنهمر وهي لا تشعر بها وكأن آفة مِن الشلل أصابت وجهها، وساقها التي خرجت من تحت ردائها الطويل بينما هي رابضة لا تتوقف عن الإهتزاز.. لم افهم! اوه، ربما هذا هو الحزن الذي قرأت عنه في الجرائد؟
وبغتة، باشرت بتلك الصيحة.. على هذا المعدل، سينقلب الوضع ضدي، لذا رفعت نصلي الحاد والمملوء بدواخل من قبلها، وما لا اتوقعه، حين باغتتني والدتها بعصاها الخشبية المُرتجفة.. هل تريد لم الشمل ام ماذا؟

‎وقبل أن افعل ما أرنو إليه، صدحت خطوات عديدة قادمة بإتجاه المنزل وضجة آتية من بعيد، وما شأنهم في الأمر؟ هذا يذكّرني حينما كنتِ توبخيني لقراءتي الجرائد، وتتدخلين فيما أحب فعله، لكنك ألطف منهم بالطبع!
خرجت قافزاً من الشبابيك الخلفية راكضاً نحو الغابة، و ألقيت نظرة خاطفة خلفي، انهم الجيران، ساستفرغ احشائي لشدَّة فضولهم.

‎ماذا تتوقعين؟ هل امسكوا بي؟ لا، لم تحزري

‎بقيتُ في الغابة، عدة ليال مُظلمة، احاول فيها فهم رغباتي، هنالك احساس غريب.. كيف يهجم علي و أنا خاوٍ هكذا؟ لم يكن احساساً جديداً جربته، بل فيه لذعة بسيطة من ألم الماضي، وكلما اشرقت الشمس، حاولت إستمداد ضيائها ليهرب إضطرابي مدبراً.. لربما ادركت، انه الخوف، لم يكن يشبه أي ألم.. لقد كان ألماً خالِصاً مُركزاً لا تشوبه شائبة، مِمّا يجعلني ابلغ نقطة سحيقة في عمق عقلي، ضحاياي من قبل، وتلك العيون التي حملت مُقل حائرة مشوشة، وأنا أعي تماماً السبب، تلك الشفاه المُزرقة التي ترتجف وتزُّم، وأنا أعي مجدداً السبب.. لا افضّل هذا الشعور عليّ شخصياً، و إن كان يدرك ضحاياي فسيكون أمراً عسيراً وشاقاً ايضاً. قد استدرك بعضاً من مفاهيم البشر.. لكن هذا الخوف.. حينما اشعر به.. كان يأكلني، يبتلع رأسي في جوفه، يفتقه، يحطمه، يمزقه بأنيابه، حتى انني لم أعد اطيق اخذ شهقةٍ عالية، شهقة ازدرد فيها هوائي المفقود والمبعثر.
بالإضافة، اعتقد انه يجعلنا نستمر، لولاه، لما كنت قد هربت و اختبئت، اختبئ منكِ ايضاً يا أختي، لذلك لا استطيع سوى الكتابة لك.
بتُّ افكر الآن.. وعلى ذكر الأمر، لا أعلم أين أنتِ.. وماذا تفعلين او ماذا تحصدين في يومك؟ وأرجو أن صدى حروفي قد لامس شِغاف قلبك.

‎حسناً، أنني اقوم بتدوين ما جرى، ولم استكمل احداثي بَعد أنني في البداية فقط، حاولت مُقاتلة خوفي المُطلق، وعزمت على الكتابة لك.. لا أريدك أن تقلقي أو تتسائلي عن إنقطاعي.. لذا حاولت التسلل بين رؤوس أفراد الشرطة الذين يمشطون المنطقة دون كلل، لأستعيد أوراقي التي لطالما احتضنتني ودونت فيها انبائي المُبهجة.. في مكاني الصغير الذي عصف به المكان وتقلبت به الأشياء بعشوائية.
سكاكيني الصغيرة لم تعد موجودة، وبعض اشيائي مفقودة، لكنني، ابتسمت مغموراً بالفرحة اللحظية، حينما اكتشفت بأن أوراقي و أقلامي، مختبئين بأمان في اماكنهم تحت قطعة خشب منزوعة من الأرضية، لم يتبين لأحد منهم! يالِـحظي.

‎حسناً، إن المكان مفعم بالخطر، لذا أنا أدون بسرعة وأعتذر إن كانت هنالك خربشات كثيرة في الصفحة، فأنتِ ستقرئين حروفي رغم ذلك.. وستشعرين بي كما افعل أنا معك.
‎اكره قولها، لكن يتوجب علي إعادة مذكرتي في مكانها السرّي، و أن اعود إلى أطراف الغابة حتى لا يعثرون علي، سأذهب الآن، فهناك صوت خطوات يُطقطق بجانب أذني.

مع كامل الموّدة، باتريك.

كورليسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن