(9)

2 1 0
                                    

تساقطت رقاقات الثلج من السماء الملبّدةِ بالغيوم الداكنة، وتشكّل غطاء أبيض سميك على الأرض، هبَّت موجة من الثلوج المفاجئة لتكسو المدينة خلال وقت الظهيرة، وكانا الرفيقان يجلسان بمقاعد طوليّة مخصّصة بجانب رصيف الشارع. يمُر الناس من أمامهم هاربين ومُحتمين، بينما هما ساكنان في مقاعدهم مظهرياً، والصخب يعبث داخلهم. فرّق ألكوت شفتيه الصغيرتين، بعدما تمكّن منه البرد ولم يحتمل أكثر، بأنفٍ مُحمر، وتكوّن بخار كثيف أمامه نتيجةً لهواء جوفه الساخن.

" ما الذي يتوجب علينا فعله الآن اندرو؟ "

كان اندرو لا زال يتمعن في أوراق النتيجة لتحليل المختبر، يضع كفّه ليغطي وجهه، مُقلصاً عينيه.

" ألكوت.. التحليل هذا لا يكفي "

" ما الذي تفكّر به؟ "

سأله، فهَمهَم قليلاً، يُقلب فكرةً في رأسه.

" سنوسّع نطاق التحليل ومطابقة البصمات "

" أنت لا تَعني التحقيق في أمر المدنيين، صَّح؟ "
قال ألكوت مبحلقاً في وجهه
" يُحال أن تكون هذه الجرائم الشنيعة من فعلِة شخص لا يمتلك سجلاً إجرامياً.. ربما هنالك خللٌ ما، عملية تستر أو تلاعب بالأسماء وما شابه، لكن أن نحقق في أمر المدنيين، هذا يدعو للتردّد قليلاً "

" هذا ما يخبرني بهِ حدسي، كما أن مطابقة بصمات المدنيين منطقيَةٌ اكثر من وضع افتراضات معقدة "

أكتفى اندرو بالرد عليهِ بهذه الكلمات، فما كان على ألكوت غير أن يُعيد بصره للأفق الأبيض مُتنهداً، فهو يعرف رفيقه جيداً. لطالما عمَلا معاً رغم شخصياتهما المتناقضة، وبطريقةٍ ما كانوا يُكمِلون بعضهم البعض في شركتهم المزدهرة بقيادة السيد بلايك. كان ولا زال المحقق اندرو يعمل في مهنته لِتحقيق وإشباع رغباته البشرية، التي تكمن في الفضول للمجهول، وبإثبات وجهة نظرِه الفلسفية لموضوع مهنتهِ التي كلّما فكر فيها جعلت الشغف يكبر فيه، فالخير والشرّ متضادان، وهو يؤمن بأن داخل كل طيب مقدار من شر، وداخل كل شرير مقدار من خير، لأن هذا ما يشكّل التوازن البشري حينها. وفي لحظةٍ ما قد تنقلب الكفّة جميعها، قد يصبح الملاك شيطاناً، والشيطان ملاكاً، لكن، لا يحدث هذا إلا عند لحظة الخطر المحدق الذي يُزعزع الكيان. ولأنه محقق توجّب عليه أن يشهد لحالات فضيعة لمجرمين على مشارف انهيارهم العقلي، النفسي، الجسدي، عندما يرون الموت قادماً بهيبته إليهم.. هذا ما قد يكونه الإنسان، البشري الضعيف، لأن عند لحظة الموت، تتجلّى الصورة الحقيقية التي كان عليها حتماً، وحينها لن ينفعه شيء، لن ينفعه شيء البتّة إن انكر هويته الحقيقية، لذا مهنة اندرو كانت كسببٍ يدفعه للعيش، وللإستيقاظ بنشاط كل يوم، كي يغذي عقله على تلك التطلعات التي تُطفي من رغباته وهواه المستعرّ الذي لا ينطفئ، مُتوشّحاً بِرداء العدالة. وهذا على النقيض تماماً من الطبيب ألكوت؛ فهو رجل بسيط عاطفيّ يستغل قدراته وما وهِب إياه لأجل أن يحصل على المال ويوفر عيشةً مُرضيةً له، ولتقديم يدِ العون للمحتاجين، أهدافه واضحة وأمام نصب عينيه، لذا سيبقى يطوّر من مهاراته ويسخرها لصالحه ولِمن يحتاج، فهو لن يحقّق رضاه الداخلي إلا عندما يسمع كلمة شكر، ابتسامة صادقة، وأن تَتحقق نتائجه المرجوة كما يأمل، حينئذٍ سَيستطيع إغلاق جفنيه براحةٍ في المساء.

كورليسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن