كان الجميع يسارعوا فى الركض و كأن البيت قلب للتو لسباق للجرى و ليس بيتًا طبيعيًا، الجميع يصرخ بسرعة و هم على استعجال منهم من يهم لكي يكوى عبائته البيضاء و منهم من يهم لإغتسال بسرعة و منهم الذى كان يسارع بالتوضأ، فى وسط تلك الضوضاء يجلس " عبد الفتاح " و هو يمسك جريدته و هو يتابع الأخبار كعادته التى اعتادها منذ زمن بجواره كوب من الشاى التقطه بين يديه و عيناه مرصودة على الجريدة تأبى التحرك و من ثم ارتشف منه بهدوء شديد و تابع القراءة بتركيز بعيدًا عن ذاك الإزعاج الذى يحدث يوم الجمعة خاصةً، تلك طقوس أولاده الشباب كعاداتهم حرك رأسه بيأس من حالهم رغم كل إنذاراته لهم بأنه يجب عليهم تجهيز نفسهم من الأمس أو الإستيقاظ باكرًا و لكن من ذا الذى يطيعه وسط كل تلك " المعمعة " كما أدعاها.
ارتشف أخر رشفة من كوب الشاي الخاص به، لينهض و هو يضع جريدته و عليها نظاراته بهدوء و من ثم توجه لغرفته و هو يطالع صورة تمنى و لو أنها كانت حقيقية، تلك العائلة المتكاملة كانت لتظهر فى مظهرًا أفضا لولا وجودها بينهم، اهِ... " كريمة " لم أكن أعلم أن فراقك سيكون هكذا يومًا و لم أكن أعلم أني سأكن لكى بكل ذلك الإحترام و التقدير، تنهد لثواني و هو يطالع الصورة قبل أن يقتحم ولده الصغير ذو الثمانية عشر " عبد الرحمن " من عمره الباب فجأة و هو يتحدث بضجر و إستياء من معاملة إخواته:
- و الله يا بابا التيران إلِ بره دي لو ملقتش صرفة ليهم مش عايز أقولك أني هزعلهم جامد اه.
و قبل أن يبادر والده بالرد كان أخاه " عبد العزيز " ذاك المشاغب يمسكه من تلاعيب ملابسه و هو يهزه هزات متتابعه بضجر:
- هتزعل مين يلا؟ و بعدين واخد برفاني و هدومي و ليك عين تتكلم يا حيوان.
حاول التحرر منه و لم يستطع فمن ذاك الذى يفلت من يد " عبد العزيز " حتى و لو كان أخاه ذاته، حاول التحدث بشجاعة مزيفة:
- اه و بعدين أنتوا بتعاملوني ليه أني ابن الجيران و الله أنا ابن الحاج دة و الله، الحقني يا بابا دة هيموتني.
" سيبه يا عبد العزيز و حقك عليا المرة دي"
طالع والده بملل و هو مازال يمسك ذاك الصغير من ملابسه ليلقيه أرضًا و هو يعقد يداه بملل:
- اهوه عندك كتك القرف و أنتَ عيل ملزق كده.
كان ملقى على للأرض بصدمة ليرفع عيناه لوالده و ملامح الضيق تعتلي وجهه:
- يرضيك كدة يا حاج ولادك مش محترمني يرضيك؟
ضرب كف بكف و هو يعبر من الباب و يتوجه للمطبخ و كأنه شبح شفاف تحت أنظار " عبد الرحمن " المصدوم الذى نهض و هو ينفض التراب عن ملابسه بوهمية:
- مفيش فايدة محدش عارفة قيمتي.
و من ثم وقف فى منتصف الصالة و هو يردد بدراما و قد تقمص الدور بكل إتقان حين تحدث بصوت مرتفع بيجعل أخواته و أباه يسمعونه:
- بكرة أبقى أكبر دكتور فيكي يا مصر كلها و هبقى أشهر من مجدي يعقوب ذات نفسه يا عيلة.......
قبل أن يكمل كلامه شعر بضربة على رأسه من الخلف فنظر لصاحبها بصدمة مخلوطة بالشر و لم يكن سوى أخاه " عبد الرؤوف " الذى كان يمسك تفاحة يأكلها بنهم و هو يردد:
- لما تخلص السنة و تعدي من غير كحك نبقى نشوف.
تحسس رقبته بغيظ و هو يطابع أخاه بضجر الذى حرك حاجباه بسخرية و من ثم رمى جملته عليه و هو يرحل وسط تذمره الواضح:
- روح يلا ألبس عشان الصلاة قربت.
طالعه بتذمر و قد قلب عيناه بغيظ:
- عيل سمج لولا أنك أخويا و الله كنت.........
التفت له " عبد الرؤوف " و هو يطالعه بتحذير أن ينطق بكلمه و من ثم سيعلم مصيره جيدًا فرغم كل شئ " عبد الرؤوف " حاد قليلا فى معاملته لذلك ابتسم له إبتسامة مصطنعة و هو يقبل رأسه قائلا بدراما لم تدخل على عقله:
- دا أنتَ أخويا حبيبي، ابن أمى و أبويا و ابن تسعة كمان يا عبد الرؤوف يا قمر أنتَ.
قلب عبد الرؤوف عيناه بملل و من ثم دفعه بهدوء عنه و هو يتوجه لغرفته فتح البابا ليجد " عبد الرحيم " كعادته متأنق فى نفسه أخرج صفيرًا و هو يبتسم له بإعجاب:
- باشا و ابن باشا.
قهقة " عبد الرحيم " و هو يطالع أخاه و من ثم أخرج عطره و هو ينثر منه على ثيابه و قد أت الرائحة تفوح اقترب منه " عبد الرؤوف " و هو يستنشقه كعادته و يغمز له بمشاكسة:
- و مش نازي تقزلي نوع البرفيوم دا أي؟
نظر له بطرف عيناه ليفهم " عبد الرؤوف " إلي ما يرمي إليه أخاه فابتسم له بود أسند يداه و جسده على حافة السرير:
- فى حاجات كدة مش مكتوبة للي زينا يا عبد الرحيم و متقلقش مش هجيب من البرفان بتاعك أنا كنت بهزرو معاك يا راجل.
نهض من موضعه و هو يرحل ليرادي عبائته البيضاء بينما " عبد الرحيم " ابتسم إبتسامة باهتة حملت فيها كل معاني الحزن داخلها، أغمض عيناه بألم و هو لا يود تذكر ذاك الجرح، لا يود المحاولة أيضا، ذاك الرجح أتلف له جزء من حياته لم يستطيع إستعادته من جديد و من ثم أتلف ذكرى حاول كثيرًا محاربتها و لكن هيهات لم ينل ما يريد ليقع تحت أسر ذكرى لطالما كانت الأسوأ فى حياته، تنهد تنهيد عميقة و هو يشعر أن الهواء يأبى الدخول رئتيه فخرج للشرف و هو يطالع الأشخاص فى شارعهم، كان الشارع مزدحم بالأشخاص و كل منهم يهم للمسجد بسجادة الصلاة فى يداه بالإضافة إلى عبائته البيضاء، شرد قليلا و لكنه أفاق على صوت أخيه الأوسط " عبد الله " الذى رتب على كتفه و هو يقول:
- يلا يا عبدالرحيم الصلاة هتبدأ و بابا و أخواتك خلصوا.
هبط " عبد الفتاح " مع أبنائه الخمسة مظهرهم الخارجي يوحي الشموخ و لكن لا أحد يعلم أنهم أتفه مما يظهرون عليه، دخلوا للمسجد و همو بالصلاة و داخل كل منهم أمل يتمنى أن يلحقه عما قريب ...