فتحتُ عيني على تلك الغُرفة المظلمة. وأحسستُ فورَها بصُداع شديدٍ وألم في مؤخرة الرأس. حين نظرت بين قدماي كانت المرآة مهشّمة للألف قطعة. جُلتُ بنظري في المكان، كان كل شيء في مكانه. وأقصدُ بكل شيء، ذلك المكتب البنيّ المائل للحُمرة. استحضرتُ ما حدث ذلك اليوم، لقد توجّهتُ إلى مكتب عميدِ الكليّة. كان يجلسُ على كرسيّه الجلديّ خلف مكتبه الفاخر من خشب الماهوغني بلونه البنيِّ المائلِ للحُمرة. طلبتُ منه يومها أن يؤجّل موعدَ سدَادِ المُستحقات، ويُمهلنِي بَعض الوقت. أخبرني أنّ الأمُور المالية لا تعنيه والأجدر أن أتوجّه بطلبي إلى مكتب مسؤُول الشؤُون المالية. هذا الأخير، كان قد تلقى أوامر مباشرة من العميد، طبعا، بأن يلتزم بالمواعيد المحدّدة للدفع المُستحقَات دُون تمييزٍ بين الطلبة. وأن يُذكِرَنِي بأن الخطأ يقع على عاتقي باختياري لكذا جامعة مرمُوقة، نظرا لحالتي الاجتماعية. وأنّ إدارة الجامعة تحتاجُ إلى حدّ أدنى من المصَاريف لتوفير الجودة المنشُودة، التي تَحُول دون المساس بسُمعتها. وأنّها ليست ملجأ للمحتاجين، وهات من تلك العبارات.
خرجتُ من الغرفة وسلكتُ الممر نحو قاعة الانتِظار. ولكن حين وصلتُ لم يكن الباب الذي يفضي إلى الشّارع موجودا. لم يكُن هنالك غير الكنبة ذات اللون الأحمر المنفر، والباب المؤدي إلى دورة المياه. والذي لم أستغرق وقتا طويلا حتّى قررتُ فتحه. ولكنّي فوجئتُ بدرج يُؤدي إلى الأسفل، إلى قبو المبنى. لم يكن لديّ خيارٌ سوى المُضيّ قُدُمًا، أو بالأحرى إلى الأسفل، إلى العُمق، حيث الظلمةُ أشدُّ وأكثف.
نزلتُ الدرج برويّة وكنتُ بيدي أتحسّسُ الجدار على يميني. حاولتُ جاهدًا أن أتذكّر ماذا حدثَ بعد انقطاعي عن الدراسة، ولكن الذاكرة امتنعت. وأظنُّ بي قد أرهقتُ نفسي حتّى عاودني الصداع. وعلى حين غرّة، زلّة قدمِي، وأخذتُ أتخبّطُ يمنةً ويسرة مُتدحرجًا على درجَاتِ السُّلم، حتّى بلغتُ قاع القبوِ مُغمًا عليّ نسبيًّا.
***
- "كم سيكلفني الأمر؟" سألتُ
- "عشَرون ألفا للشهادة، وخمسون ألفا لاعتمادها. ومباركٌ عليك الوظيفة" أجاب. ثمّ أضاف: "ومُباركٌ نيلُ الشهادة" وضحك.
مضى على وفَاة أبي، الحاج مُصطفى، خمسُ سنوات تقريبا. تنازعتُ خلالها أعمامي على حقّي وأمّي في ميراث جدّي. ولم يصبنا منهُ حتّى اللحظة سوى شيءٍ من مداخيل الصفقة الأخيرة، التي كان قد أتمّها أعمامي لمنتُوج الحبوب للعام الماضي. وذلك لم يكن ليحدُث لولا رفعُ دعوَى قضائيّة. بعد تركي للصفوف الدراسية، لم يكن أمر العثور على وظيفة هيّنا. والمبلغ الذي كنت أتقاضاه آخر كل شهر، كان بالكاد يُلبي حاجتنا من الطعام والفواتير وتكاليف الإيجار. وفي ظلّ الظروف الحالية للبلاد، وتفشي الفساد الإداري، فقد بدت رشوة الموظف المسؤُول عن تفحص ملفات المرشحين للوظيفة العمومية وتزوير شهادة جامعية فكرة منطقية. بل كانت بالنسبة لي وقتها فُرصة ذهبيّة. وهكذا قمتُ بتحويل جلّ المبلغ الذي استلمناه من نصيبنا من التركة للحساب الموظّف. وهذا ما ضمن لي عملاً حكُوميًا مستقرًّا وراتبا محترمًا وفوق كلّ ذلك مكانة اجتماعية عالية. والذي زادني غبطة، هو أنّ تلك السنوات على مقاعد الدراسة أتت أكُلها، فقد أتقنتُ لعب دور الطبيب النفسيّ جيّدا.
أنت تقرأ
مخاض الهوية
Mystery / Thrillerوبينما كنتُ في حيرت من أمري، مرّت هي، مشتتة كلّ تفكيري. هيفاءً ممشوقة القد. وخُطاها كأنه نقر على سطح الماء. وأصابعُ يدها كأنها منحوتة من العاج. والأنامل في حمرتها كالورد. وأمّا شعرُها ليس بمسدول ولا مشدود بل على شكل ربطة الفرس. تسبقه هي، فيلحقها، وه...