بعد أسبوع تقريبا، استأنفتُ العمل من جديد. وقررتُ أن أحدّ من استهلاكي للمورفين بصورة أقدر بها على توفير حاجتي من المستشفى دون إثارة للشبهات. ومضت الأيّام على عهدها القديم لكن مع اختلاف بسيط. في الثالث والعشرين من شهر نوفمبر – تشرين الثاني، كنت بأحد المؤتمرات العلميّة، أقدّم آخر النتائج والمستجدات المتعلّقة بالطريقة التي ابتكرتها. ورأيت رُؤى هناك بين المستمعين. كانت على عهدها وحُسنها، مشرقة وساحرة. أربكني حضُورها وزادتني ارتباكا بأسئلتها، وأظنّ أنّها لاحظت ذلك. بعد انتهاء المؤتمر، رحتُ أبحث عنها بحماس بين الحضور وكانت هي الأخرى كذلك حيثُ نَقرتْ بسبابتها كتفي الأيمن وقالت معلنة وكل وجهها يبتسم: "ها قد وجدتك". فابتسمتُ لرؤيتها. وخُضنا في حوارٍ طويل انتقل مكانا من قاعة المؤتمر إلى صالة المشروبات، وموضوعًا من البُحوث العلمية إلى الحياة المهنية والشخصية. أخبرتها أني انتقلتُ من الجامعة إلى أُخرى وحُزت شهادة في طب الأمراض النفسية والعصبية، وتمّ تعييني في مستشفى حكومي. كانت تبتسم طول الوقت. أثنت عليّ كثيرا، كما أبدت اهتماما كبيرا بمساهماتي العلميّة. كانت الأمسيّة رائعة برفقتها. في نهاية جلستنا، التي بدأت لي كأنها دقائق رغم أنّها طالت للساعات، ودعتني قائلة: "متى أستطيع مقابلتك مرة أخرى؟!". تأتأت قبل أن أجيب: "على الساعة التي تناسبك. آخر الأسبوع؟ أنا متفرغٌ تماما". وهكذا كانت بداية علاقتنا.
***
في ليلة من شهر يناير - جانفي، كنت عندها في الشقّة، وكان الجوّ باردا وممطرا بغزارة. كنتُ منهمكا ورُؤى في تطوير البرنامج العلاجيّ عبر وضع مقارنة بين الدراسات المماثلة من حيث المنهجية والوسائل المستخدمة والحالات المرضية وكيفيّة تشخصيها. وفجأة، طُرق الباب. لم تنقطع عن الكلام بل استمرت في الحديث عن فرضيتها بحماس شديد وهي تتوجّه لفتح الباب. كنت أنصت باهتمام وأهزّ رأسي برضى دون أن ألتفت لها. سمعتُ صوت الباب يفتح، فتوقّف شلال الكلمات. سمعتُ همسا خافتًا ثمّ قال صوت آخر: " أ لا تسمحين لي بالدخول؟!". دخل أبوها بزهوّه المألوف وبدلته الكُحلي. وألقى نظرة متعاليةً للشقّة وكأنّه لا يراني. ثمّ لحقت به رؤى قائلة: "أحمد، زميل المهنة، الذي أخبرتك عنه". هزّ والدها رأسه يحييني ثمّ صبّ كلّ تركيزه على ابنته: "هل الأمور بخير حال؟" هزّت رأسها بابتسامة حنونة ثمّ قالت: "دقيقة، سأحضر لك مفاتيح السيارة". ثمّ غابت عنّا للبرهة. تفاديتُ النظر إليه، واستقرت عيناي على الكنبة الجلدية المقابلة، ذات اللون الأحمر القاني. وفجأة توجّه لي بالكلام قائلا: "لقد سبق وأخبرتك يا فتى. سُبُلُنا ليس من المفترض لها أن تتقاطع". رفعت رأسي نحوه مرتبكا وتساءلت: "معذرة؟!". فأضاف: "إنّ رغبتي في نقل ابنتي من كليّة للأخرى، بالضُرورة سيثير بعض التساؤلات لدى عميد الكليّة. ولا أظنّ أنّه تردّد في استبعادك حين أخبرتهُ عنك. ولا أظنه أمرًا عسيرًا أيضا أن أقوم ببعض الاتصالات للتحقّق من شهادتك العلميّة". وحين عادت رؤى لم أكن هناك.
***
مضت أيّام من القلق والحيرة. تردّد صدَى كلِمَاته في ذهني مرارًا وتكرارًا: "... ليس من المفترض لها أن تتقاطع... تتقاطع". وتخيّلتُ صورة رؤى حين أخبرها والدها بالحقيقة. أغلقتُ هاتفي تحسّبًا. وطلبت من عاملة الاستقبال في المستشفى أن تتعلّل بأي حجّة إن سأل شخصٌ عنّي. ورغم الحيطة والحذر اللذان أتصف بهما، إلاّ أني صرتُ أستهلك ضعفي الجرعة الاعتيادية. وعلى مَا يبدُو فإنّ هيئتي وتصرفاتي أثارَا بعضًا من الريبة في المستشفى. حيث استمر الجميع يطرحُ باستمرار السؤال نفسه: "هل أنت على ما يرام؟!". صرتُ أُفضِّل تجنُّب النّاس، وأتحاشى المحادثات بين زملائي في العمل. تملّك منّي الهوسُ وصرتُ أقضي الساعات وجلّ تفكير منصب حول هذا الأمر، في فترة العمل، في البيت، خلف مقود السيارة، في كل مكان تقريبا. ثمّ بدأتُ أعدّد الأشخاص الذين يكنون لي من الضغينة ما يجعلهم يتقصّون عن خلفيتي الأكاديمية. وفجأة، تولّدت الفكرة ونمت أكثر فأكثر، حتّى صرت أردِّدُها همسًا: "يجب قتل العميد".
***
حين كنتُ مرتخيًا بجسدي على الكرسيّ الخشبيّ، وتلك الغبطةُ والنشوةُ تعتريانِني. استحضرتُ ذلك الشعور بالسكينة، والهدوء الذي عمّ المكان. لحظتها، كان قلبي ينبضُ بالحياة. وذلك النفسُ المتصاعد الذي كان يشكّلُ سحابة ضبابية صغيرة، تتلاشى مع كلّ نفس جديد في ذلك الجوّ البارد، جعلني أشعر كما لو كُنت قد ولدتُ من جديد. حين كنتُ أطوّق رقبة ذلك المرتشي بين ذراعيّ، سرى تيّار في كامل جسدي، أشعرني بالقوّة والسيطرة. للحظة، استطعتُ أن أُرضخ هذا العالم الدنيء. فقط بكفتي يداي. أمدني ذلك الشُعور بسعادة فاقت ما تمنحهُ آلاف الجُرعات من الموّاد المخدّرة. وبدا لكلمة "الخلاص" وقعٌ جميل. لم أتردّد في تخدير "عميد الجامعة" في موقف للسيارات. فلقد كنتُ متشوّقا لذلك الفيض من النشوة. قدتُ بسياراته إلى مأوى ريفيّ ودفنتُ كليهما هناك.
أنت تقرأ
مخاض الهوية
Mystery / Thrillerوبينما كنتُ في حيرت من أمري، مرّت هي، مشتتة كلّ تفكيري. هيفاءً ممشوقة القد. وخُطاها كأنه نقر على سطح الماء. وأصابعُ يدها كأنها منحوتة من العاج. والأنامل في حمرتها كالورد. وأمّا شعرُها ليس بمسدول ولا مشدود بل على شكل ربطة الفرس. تسبقه هي، فيلحقها، وه...