4. الهوية

3 0 0
                                    

استفقتُ ثانية مُلقا على بطني، ولكن هذه المرة في ذلك القبو المظلم. أحسست ببرودة ووجع في كلّ جسدي، وبسيلان في الأنف، لكن الصُداع كان رهيبًا. بدأتُ أسترجع ماذا حدث. بعد تعييني كطبيب في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية، تحسنت ظُروفنا المادية والاجتماعية. ورغم أنّي أكمنتُ عن أمّي حقيقة تركي للفصول الدراسية وحصولي على الوظيفة جرى بطريقة ملتوية، إلاّ أنّي كنت كارها لصنيعي الذي اقترفت ومشمئزا من نفسي. ورغبةً منّي في التكفير عن خطئي واثبات استحقاقي للمهنة، كرّستُ كلّ جهدي ووقتي بين عملي وتدارك ما فاتني من الدروس. وقد سمح التطبيقُ العمليُّ في المستشفى، لما كنت أتعلمه، بتنمية خبراتي وتوسيع معارفي بصورة أسرع. وفي ظرف خمس سنوات، تمكنتُ من إحداث تغيير ملحوظ في المستشفى. وذلك عبر وضع بروتوكول طبيّ شامل للمتابعة المرضى بطريقة سلسلة، وخطّة علاجية مدرجة بعناية، تنفذ بشكل مرحليّ ومدروس يسمح للمرضى بالإندماجي تدرجيّا في المجتمع، مبدئيّا بمساعدة الفريق الطبي ثمّ أقارب المرضى. أحسستُ بكثير الرضى عن نفسي ورأيت الغبطة والفخر في عيناي والدتي حين كرّمني المدير العام للمستشفى بحضور وزير الصحّة وثلة من المسؤولين المرموقين. لقد خلتُ أنّي بذلك كفّرتُ عمّا سلف، وأنّ الحياة تبسطُ صفحة جديدة بعبق ربيعها بعد فصل شتائيّ قاس. لكن يبدو أنّي كنت مُخطئا. أصيبت والدتي بالسرطان وتدهورت صحّتها كثيرا. كافحت ما استطاعتُ وتوسّلت كل الجّهات والتمست أملا في تلك البِدَلِ التي تملقتُ، والمراكز المرموقة التي عرفتُ. لكن الطبّ وقف عاجزا أمام حالتها، وتوفيت والدتي.

أحسستُ بالذنب الشديد والمرارة. ومقتُ كلّ شيء. مهنتي ... مكانتي الاجتماعية ... زملائي... ذلك الإداري المرتشي ... وحتّى عميد الكليّة ... والدُ رؤى ... أعمامي ... نفسي ... كلّ شيء تقريبا. انقطعتُ عن العمل، وانعزلت عن الناس. فقدتُ الدافع ورغبتي في الحياة. كنت حقّا أتألّم روحًا وجسّدًا. لم أرغب بشيء كرغبتي بزوال هذا الوجع. ولم أجد مناصا سوى تلك العبوة التي تركتها أمّي "المورفين". بكيتُ بكاءً شديدا ليلتها قبل استهلاكه. وددتُ حقّا لو أنتهي هنا بسبب جرعة مفرطة. لكني لم أجرأ.

ضغطت بيُسراي مقبس النور، فأُضيء القبو. توجّهت إثرها إلى طاولة، كانت مركونة إلى الحائط. سحبتُ الكرسيّ وجلستُ. أخذت الحقنة وعبوة المورفين، وسحبت بمقدار معيّن، ثمّ أفرغت السائل داخل مجرى الدم. ارتخيت على الكرسيّ، والنشوة تعتريني. بينما تدلت الجثّة التي في منتصف الغرفة، تحجبُ شيئا من شعاع المصباح.

***

طُرق بابي في تلك الليلة طرقًا شديدا دون انقطاع. وعلى غير العادة، عجَزتُ عن التجاهل. فقررت أن أرى من هذا الطارق الذي لا يراعي ما أمرّ به من مرارة بعد فقداني لوالدتي. حين فتحتُ الباب، كان ذلك الإداريّ المرتشي ينتصب أمامي: "لقد تأخرت الحوالة للأربع أشهر" قال.

حين صرتُ مرموقا في مهنتي، وعلا صيتي. لم يكن لذلك أثر مهنيّ واجتماعيّ فقط. فقد أصبح اسمي يتردّد في مكاتب الوزارة. والذي خلتُه أمرا جللا كان له عواقب وخيمة. فلم تمضي أيّام حتّى وجدت ذلك الموظف المرتشي يعترض طريقي، ويطالبني بدفع إتاوة شهرية حتّى يتمكّن من لملمَتِ الفوضى التي سببتها على حد تعبيره. لم أجد صرفًا سوى الرضوخ إليه. بعد وفاة والدتي، نسيتُ أمره تماما. لكن ها هو هذا الحقير لم يلبث أن طرق بابي.

نظرتُ إليه بامتعاض ثمّ أجبته "لقد توفيت والدتي. ألا تستحي". "لقد كان ذلك منذ ثلاث أشهر" أجاب، ثمّ أضاف "أنت لا تعي خطورة الأمر، أليس كذلك؟!". صحت في حنق: "لا أهتم، وافعل أنت أو غيرك ما تريدون". نظر إليّ بغضب وقال "سوف نرى يا عزيزي، سوف نرى" واستدار مُدبرا. لم أتمالك نفسي لحظتها وسحبت هذا الداعر من ياقة قميصه. وطوقتُ رقبته بذراعي اليسرى وضغطتُ. لطم وعافر، ثمّ اهتز حتّى انقبض، ثمّ شخر وارتخى. بقيتُ أطوقهُ للمدة لا أدري أ قصرت هي أم طالت. توقّف كل شيء من حولي، وطوّق المكان صمت رهيب. كأنّ الزمن تجمّد تمام. لم أشعر ساعتها سوى بنبض قلبي وحرارة أنفاسي وذلك النسيم البارد.

مخاض الهويةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن