حين فتحتُ عيني، وجدتُني أتدلّى من السقف والحبل يلفّ رقبتي. كان يجلسُ من تحتي مرتخيا على كرسيّه الخشبيّ. باعدت بين شفتاي محاولا أن أستنجد به ولكن لم يصدر منّي سوى صوت حشرجة خافتة. كان الحبل يعتصرُ جسدي ويستل رُوحي شيئًا فشيئًا. أصبحت الرؤيةُ ضبابيةً. وشقّ عليّ سحبُ الهواء. وطال الألم كلّ أعضاء بدني. "ساعدني..." قلت بصعوبة. "أرجوك...". لم يُعر انتباهًا لوُجودي. شقّ عليّ الكلام، ويئستُ مساعدته لي، فاستسلمتُ لأمري. ولكن، حين مال برأسه قليلا إلى اليسار تعرفتُ عليه. لقد كان هو، هو بوجه النحيل وعينيه الغائرتينِ، وأنفه المعقوف، وفمه المُنكسر. لملمت شتتي وسحبت نفسي بمشقّة وصرخة بكل ما أوتيت من قوّة: "أنت... أنت قتلتها. رؤى... قتلتها... دمرت... كلّ شيء... والآن... تريد قتلي". التفت إليّ من على كرسيّه دونما مبالاة، ونظر إليّ وكأنّه ينظر إلى الفراغ وأخذ يردّد:" يجب قتل المرتشي... يجب قتل العميد المتحامل... يجب قتل أعمامي الانتهازيين... يجب قتل أب رؤى المتكبّر... يجب أن نخلص العالم ... الرشوة ... التحامل ... الانتهازية ... التكبّر ... ". لم أستطع التحمّل فصرختُ: "أصمت... توقّف... توقّف ... لقد قتلت رؤى ... لقد كانت بريئة". وفجأة سكت ورسم ابتسامة قبيحة على وجهه وقال: "أ لا ترى؟!".
***
طرقت باب المدير العام. فجاءني الصوت من خلف الباب بأن أتفضل. حين دخلت طلب منّي الجلوس ثمّ خلع نظارته وعقد أصابع يديه ونظر لي باهتمام شديد، ثمّ سحب نفسا ثقيلا وقال:
- "أحمد، كان أداؤك في الآونة الأخيرة كان دون المعتاد. لقد نبّهني ثلّه من العاملين إلى تدهور واضح في حالتك الصحيّة. حتّى أنّ كثيرا من زملائك المختصين أبدوا تخوّفا من تصرفاتك وأحسب أنّ بعض الضغوطات لها أثر على المستوى النفسي. وأنت تعلم أنّهُ يجب على الأطباء أن يتحلّوا بالانضباط أثناء أداء المهنة وذلك لا يكون دون استقرار عقليّ. لذلك تحسّبا لأيّ عواقب قد قرّرت توقيفك عن العمل".
- "لكنّي بخير حال." مُقاطعا. "ولا أجد مبررا لكذا قرار. وأحسب أنّ الزملاء ..." فقاطعني:
- "أحمد، لقد تَمّ إحالتُك على عُطلة مرضيّة مفتوحة، مع الزامك بمُراجعة طبيب نفسَانيٍّ مختصّ. إنّ حالتك تستدعي تدخُّلا خاصًّا". حاولت مقاطعته لكنّه استمر دون اهتمام:
- أنصت جيّدًا ... لا تُحاول ... لن تستطيع استئناف مُزاولتكَ للمهنة دُون تصريح خطيٍّ من الطبيب." وفي تلك اللحظة انقضضت عليه.
- "أرجوك ... توقّف ..." صارخا.
***
نظرتُ إلى الجثّة المتدليّة من السقف وقد أسكتها الموتُ نهائيّا.
- "أنت شخص انهزاميّ وخنوع، راضخ لهذا الواقع المتدني. لقد أمسكت بزمام الأمور حين تخلّيت أنت عنها. ورغم ذلك، قاسمتك شيئا من المتعة والقوّة ولذّة السيطرة. ولكنّك أبيت إلاّ ترى العالم من زاويتك الأخلاقية. "الخلاص ... الخلاص" صدّعت رأسنا بهذه الكلمة الغبيّة. تريد خلاصا دون تضحية، دون معاناة؟ أ أحمق أنت؟ تريد أن تطهّر نفسك؟ أنظر حولك، يجب أن تطهّر العالم. يجب أن تقتل وتقتل... وتقتل، الرشوة والكبرياء والانتهازية والتحامل والطمع والشهوة والكسل والغضب والجشع. يجب أن تقتل ذلك الضعف الذي فيك، الضعف الذي هو أنت. قلت لي أنّها بريئة؟ كان يجبُ أن تموت رؤى حتّى ترى أنت."
وقفتُ من على الكرسيّ منتشٍ بهذا الانتصار الأخير. وفجأة سمعتُ خطوات قادمة من أعلى الدرج ثمّ صوت المفاتيح يلجُ بثقب الباب. شخصتُ ببصري إلى الأعلى وإذ بنور ساطع يغشيني.
***
تسرّب من نافذة الزنزانة شعاع صباحيّ من نور الشمس مداعبا وجهي. ما زال صداع الأمس يلازمني. نظرت إلى باب الزنزانة، فكان السجّان هناك يقف عند المدخل. هنا في عنبر 8 غرب.
أنت تقرأ
مخاض الهوية
Mystery / Thrillerوبينما كنتُ في حيرت من أمري، مرّت هي، مشتتة كلّ تفكيري. هيفاءً ممشوقة القد. وخُطاها كأنه نقر على سطح الماء. وأصابعُ يدها كأنها منحوتة من العاج. والأنامل في حمرتها كالورد. وأمّا شعرُها ليس بمسدول ولا مشدود بل على شكل ربطة الفرس. تسبقه هي، فيلحقها، وه...