رَيب: الزائر؟

236 12 54
                                    

ضُحى نهارٍ مُشمِس يحتضن مدينةً مزدحمةً مفعمةً بالحياة، يتجوّل بين أحيائها رجلٌ توحي هيئتهُ بالسَكينة، مُكتسيًا قميصًا وبنطالًا ذوَيّ طَلّةٍ اعتيادية كسائر الشباب متوسّطي الحال أمثاله.
الْتفتَ لكلّ بُقعةٍ مرّ بها كأنه يستكشف، فدلّ هذا على كونهِ مستجدًّا هنا، منبهرًا من الحيويّة الصارخة المنتشرةِ في جميع أركان المدينة، وهي التي غابت عنه منذ عشرين عامًا، لم يجد خلالها مكانًا أليفًا يعيده إلى ذلك الزمن، في المكان الذي شابهَها لو لا أن القديمة كانت أبسطَ وأهدأ.

وجدَ إنسيًّا يستطيع التحدّث معه في مثل هذا التوقيت -الذي ينشغل الناس بأعمالهم فيه غالبًا- فسألهُ عن الطريق إلى مدرسةٍ ابتدائيّة عرفَ أنها مركزُ هذا الحيّ، وهي غالبًا أجمل مبنًى فيه، ففي هذا العصر تحديدًا يُقَدَّسُ العلمُ كما لم يكُن.
يُعتقَد أنه وجدَ الألفة الأولى هنا لأنه أحسّ بأرواح أُناسٍ من معارفهِ في ذلك الحين، ولَقَصدهُ المؤسّسة التعليمية يقرّبهُ من لقاء أحدهم.

إنّ المقصود واقفٌ أمام اللَوح حاليًا، داخل غرفةٍ كُتِبَ على بابها (رابع-١) يقدّم درسًا يرجو الشعبُ منه أن ينتهي سريعًا، فالهدوءُ الباعث على النعاس خلالهُ خَيرُ دليل.
حتى في مثل أجواء كهذه لا بُدّ من وجود استثناء، هذا الاستثناء يختار التمَوضُعَ في زاوية الفصلِ عادةً، المَوقع الأكثر استراتيجيّةً لاستنشاق جُلّ الروائح النفّاثة في الغرفة، الأكثرُ حرًّا وخَنقًا، وفي المقابل تتجاهل هذه الفئة من البشر تلك المساوئ تَتَبُّعًا للمحاسن التي تقتصر على كونك مخفيًا تقريبًا، ستبلع وتنام وتلهو دون أن يحسّ بك مُربّي الأجيال، هو من كاد أن يكون رسولًا، قائد الأمَم وسرّ الصعود إلى أرقى المهن.

كان قويّ البُنية، مُبرِزًا ذلك برفعهِ لكمَّيهِ جزئيًا، مُعتِقًا لحيتهُ فقد كانت محسوسة غير كثيفة بمساعدة لونها الذي برغم قتامته، امتلكَ لمعةً شقراء. مكتفيًا بالاطّلاع على كتاب الطالبِ الجالس على واجهة المدفع في أحيانٍ قليلة، كأنه حفظَ المنهج عن ظهر قلب لكثرة مرّات شرحه له، ولا يكتب على السبورة إلا نادرًا لضربِ الأمثلة. أما صوتهُ المريح فهو السبب في رَشْقِ النعاس على الصبيان، كأنه يحكي قصة ما قبل نوم. وحالما تتأمّل تحرّكاته قد يبدو لك مثيرًا للإعجاب، فلُغة جسده التي تعطيه هيبةً بلا مجهود إضافةً للُطف لسانهِ تصنعُ خلطةً سحرية.

بالعودة للفئة في الموقع الاستراتيجيّ، فهي لا تفوّت لحظةً للهروب من الجوّ الممل إلى عالم آخر بعيدٍ جدًا، بعيدٍ لدرجة الرغبة في رسمهِ على الورقة التي اهترأت لكثرة خطّ أقلام الرصاص عليها، وربما يعود السبب لتنقّلها بهمجيّةٍ بين صاحبَيها، إذ يتوق كلُّ واحدٍ منهما لشخط فكرةٍ جديدة دون رؤية الآخر لتكون مفاجأةً له، بين ضحكات مكتومة كفيلةٍ بتمَغُّص المعدة حتى نهاية اليوم. بفِعلِ أشكال قبيحة يهزآن بزملائهما بها، فبعد مَسْحٍ سريع يقومان به على أرجاء الغرفة بأعينهما، يختاران واحدًا ليرسما وضعيّته بشكلٍ ساخر.

يأتيكم ما في اليمّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن