الفاعل: العلبةُ أم الحبة؟

25 3 0
                                    

اعتزمت كريمة بعد التفكير مطوّلًا الإقدام على طلب استقالةٍ أبدية، صحيحٌ أنها حصلت على إجازة لما قد يزيد عن سبعة أشهر، لكنها حقًا تدرك نفسها الضعيفة التي لن تقدر أبدًا على تحمل الالتزام بذلك البند أكثر من ذلك، يكفيها ما تشبعت به من أمانات خنقتها، وهي متأكدة من أنها حالما تصل لبرّ الأمان لن تقدر على العودة إلى محطة صدماتها مرة جديدة.

قصدت مهجع سموّها بدلًا من المكتب، طرقت الباب مرةً ومرتَين بعدها فلم تُجِب، لا يعقل أن تنام حتى الآن، جلالتها تكره النوم وتعده مضيعة للوقت، كما أنها لو كانت هنا لكن لا تسمح بدخول أحد لصرخت مُؤَنِّبةً من خلف الباب.

-جلالتك؟
ندهت عليها الخطّاطة، فلم تُكرَم جوابًا، لعلها في دورة المياه إذًا، ستترك خطاب استقالتها وترحل فقط.

أدارت المقبض فأطلّت، وسرعان ما تخدّرت ساقاها وأخذت ركبتاها تتجاذبان وتمنعانها من الاستقامة، ولشدة عدم قدرتها على التحكم فيهما سقطت بعد حربٍ لأجل الوقوف. تصاقعت أسنانها تُرَنرِنُ بنُظمٍ كدَقّ الساعة، وفقدت البصر تدريجيًا حتى أُبيدَ كليًا بغَمامٍ أسود، وأبى خطاب الاستقالة الثبات في متناوَل قبضتها.
ياقوت على الأرض بثوب نومٍ أحمر داكن، بعد بياضه الناصع، وعلى بُعد حوالي مترٍ منها كانت علبةُ المسكّن مُلقاةً وحبوبها متبعثرة في الأرجاء.

ذكرت الله كثيرًا حتى ارتدّت بصيرةً وخفست الظرف في يدها لتقف على استعجال ويُضَخ الأدرينالين حتى كاد يسبق ضخّ القلب للدم، لتركض كمن يُلاحقه وحش، عائدةً إلى مسكنها لتشدّ الرحال سريعًا وتتبخر كأنها لم تكن هنا قطّ، ففوجئت بالشاهد الذي رآها في هذه الحالة وارتعبت من أن يكون قد شكّ بها، وهذا ما يبدو فقد استمر بالاقتراب أكثر فأكثر، أينوي القبض عليها وتدمير مستقبلها وعائلتها إلى الأبد؟

أمسكَ بها من ذراعها فحبسها عن الذهاب، فهاجَت وعافرت لتفرّ منه لكن تسميته المألوفة أيقظتها: كَرّومة الحلوة، ماذا دهاكِ؟!

إنه عبد الحكيم الذي لم ينقصه همّ مشكلة عُدَيّ التي عرفها البارحة ليفيق تاليًا فيجد أمانة صديقه تهلع كما حاول دومًا أن يحدّها، وبالنسبة لها فهي تدرك تمامًا رغم الرَوْع أن هذه قد تكون احدى مِنَح القصر، ومن بين كل الأسرار التي قد تنبئ أحفادها بها فإن مشهد جثة الامبراطورة سيظل طَيّ الكتمان ولو فُضِح من مصادر خارجية، فناولته خطاب الاستقالة: أرجوك أعطه لجلالتها نيابةً عني، إني حزينة أكثر من أن أتحمل وداعها.

وما إن وضع بصمته على الظرف سابقت الريح، وهو يراقب تلاشيها مقطبًا حاجبيه.

في الوقت الذي نبذت كريمة ذاتها فيه لأنها شهدت جثة ياقوت وأعرضت، اكتُشِف مسرح الجريمة من قِبل خادمة بعد بضع دقائق، والدم الذي رأتهُ لم يكن سوى أثرًا للإجهاض، وسبب الوفاة مبدئيًا هو فقدان كمية كبيرة من الدماء، فأما التحقيقات فقد دلّت على أن مسكّن سموّها الخاص قد استُبدِل بحبوب الأسبرين التي تهدد الحمل على نحو كبير خاصة بالنسبة لرَحمٍ واهن كالذي اختزل الامبراطورة، فجرَى التحقيق لأيام معدودات للبحث عن القاتل، فعُثِرَ على علبة أسبرين فارغة في سلة مهملات موجودة في جناح النبيل جود.

يأتيكم ما في اليمّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن