١:جنازة

66 7 6
                                    

جالسا على كنبة كئيبة، ممسكا في يده اليسرى بقنينة ماء متوسطة الحجم نصف فارغة، و بيده اليمنى يصافح ايادي لم ينتبه إلى من تعود..

"تعازي لك بني... رحمها الله و جعل مثواها الجنة"

"آمين" يجيب بتلقائية و بصوت محتقن.

"إنا لله و إنا إليه راجعون.. هذا مصيرنا اجمعين بني"

"صحيح" يجيب برتابة، كأنه جهاز موسيقى عتيق لا يحوي سوى اسطوانة وحيدة متهالكة.
***

" 'نوح' تعال ساعدني في جمع بقايا الطعام"

كان نداء والده بمثابة منبه صباحي اجبره على الاستيقاظ من سرحانه. لاحظ نوح ان المنزل قد خلا من الزوار بالفعل، كما ان الليل قد اسدل ستاره منذ زمن بعيد.
اتجه نحو والده، ثم اخذ يجمع الاطباق و الكؤوس المتناثرة في ارجاء المكان.. "كيف يطيب للناس تناول الطعام في ظروف كهذه" تمتم نوح.

"لا تنظر للأمر بتلك الطريقة، الطعام صدقة عن الميت.." اجاب والده وهو يتجه نحو المطبخ، وضع كومة الاطباق هناك و انقلب راجعا صوب غرفة المعيشة حيث يتواجد نوح.

"اعلم ذلك ،لازلت لم تجب عن سؤالي.." اردف نوح بتهكم و ناظراه معلقان بمدخل المنزل كمن يترقب حضور شخص ما.

رمقه والده بنظرة حادة كان الامتعاض سيدها، لم يعتد هكذا اجوبة من نوح، إذ تبدو للوهلة الأولى انها تحمل نوعا من تقليل الشأن او الاحترام للمخاطَب، لكنه فور ملاحظته الشرود الجليّ للقائل رأف لحاله. في نهاية المطاف هذه أمه، لا يمكنه ان يتوقع منه ان يتصرف بعقلانية مباشرة بعد وفاتها، على الاقل لمدة ايام التعازي الثلاث سيحاول ان يغض عنه الطرف..

"ضع الاطباق في المجلى، سأستأجر مدبرة منزل غدا صباحا كي تهتم بتنظيف المنزل لهذا الاسبوع على الاقل.." قال والده وهو يتجه لغرفة النوم التي ادرك انه سيتشاركها من الآن فصاعدا مع وحوش الوحدة و الوحشة..

"ثم ماذا؟.." قاطع نوح والده بغتة دون ان يلتفت إليه من ما عطل سير والده لوجهته. استدار هذا الاخير بجسده كاملا ناحية نوح، ثم اتجه إليه بثبات مهيب.

وقف امامه مباشرة، قاطعا بجثته العظيمة مجال رؤية الآخر و الذي كان لايزال مثبت نحو مدخل المنزل.
"ثم ماذا؟! هممم لا ادري! اتعرف يا نوح، لما لا تسعفنا انت ببعض افكارك النيرة هاه؟! ما رأيك؟ يبدو انك لست راضيا عن قيادتي للسفينة؟! ما رأيك انت ان تستلم القيادة و تكون رجلا؟!"

كانت كلمات والده تخترق جلده كما تخترق الإبر القماش، كان المها سطحيا لكنه كان محسوسا.
لم يعلق نوح على اي من كلمات والده المتطايرة، كان جسد هذا الاخير يشكل عائقا بنسبة له، اراد فقط ان يزيحه كي يثبت ناظريه مجددا على المدخل، لم يكن يعرف لما اراد ذلك بشدة او لم يشأ ان يعترف لنفسه بأنه ينتظر احدهم..

فاجأته دفعة قوية نسبيا من والده، تسببت في ارجاعه بضع خطوات إلى الوراء و اجبرته على تحويل بصره إلى محيا الفاعل.

"انا اتحدث إليك ايها الشاب!" قالها والده وهو يصك على اسنانه غيظا.
اخذ نوح يتمعن بوجه خال من التعابير وجه والده الذي إحمرّ غضبا، "لما لم نكشف عليها مبكرا؟" قال نوح بنظرات ثابتة و نبرة جادة.
اكتسحت قسمات وجه والده أمارات التعجب و اخذ يميل رأسه إلى جانبه الايسر كناية عن الجهل.

"عن ماذا تتحدث ايها الصبي؟!" قال بلهجة زاجرة جعلت ثبات نوح يتزعزع لوهلة، لكنه ظل راكزا مصرا على إيصال فكرته.

"لقد لاحظنا خمولها و تعبها المفاجئ، رغم ذلك لم نأخذها لرؤية طبيب.." سكت نوح قليلا ثم اردف "انتَ لم ترضى ان نأخذها لرؤية الطبيب ل.." وقبل ان يتلفظ بكلمة اخرى، شعر بقبضة والده تلتحم بقوة بمحياه. ترنح بقوة حتى كاد جسده يفترش بلاط الأرضية، لكنه ظل متماسكا أمام والده، فكر في ان وقوعه الآن يعني انتصار والده في هذه المواجهة، وهو ما لم يشأ تمكينه إياه، حتى لو عنى ذلك تحمله للمزيد من التعنيف.

"فلتذهب للنوم.. يجب ان نستيقظ باكرا كي نستقبل التعازي" قال والده بعد ان امسك قبضته اليمنى بيسراه و كأنه يكبلها كي لا تقترف جريمة أخرى في حق ابنه المكلوم.
استدار بجسده ناحية الغرفة التي كانت تمثل وجهته منذ دقائق قليلة، تساءل في نفسه عن السبب الذي دفعه للرد على نوح منذ البداية، كان بإمكانه ان يتجاهله بكل بساطة كما كان مقررًا و يكمل مسيره.
فتح باب الغرفة الكئيبة بهدوء كمن يخشى إيقاظ الوحوش التي تسكن في ظلماتها، اغلق الباب خلفه ثم سمح لجسده بالتداعي على السرير الرتيب بتثاقل.
اخذ يحدق بسقف الغرفة بشرود حتى شعر بعبَرة فارة من سجن مقلته تشق تضاريس وجهه نحو المجهول، ثم ثانية و بعدها ثالثة، حتى غدا شلالا يتدفق دون توفق، حتى انه عجز عن ايقافه بكلتا يديه، فلم يجد من سبيل لذلك سوى دس وجهه في المخدة القابعة تحت رأسه.

كان نوح لايزال واقفا في مكانه حيث تركه اباه، لكن عيناه هذه المرة كانتا ملتصقتان بالأرض، كمن ارتكب سوءا او بغيا ،حتى انهار متداعيا على كلتا يديه و ركبتيه صوب الرضية الصلبة.
كان غاضبا و حائرا، لم يستطع تقبل فكرة انه سيخلد لسريره و ينام كأن شيئا لم يحدث. لم يشأ ان يأكل او يشرب او يعمل.. لم يرد ان يستكمل حياته بدونها، كان يعرف انه سيتخطى وفاتها و يكمل حياته مهما طال حزنه و هذه الفكرة بالذات كانت تسبب له الذعر، لم يرد ان يتخطاها، كان خائفا من نسيانها..

وقف بصعوبة بالغة، اتجه نحو غرفته في تخبط كسكير عائد من الحانة في منتصف الليل. فتح الباب بنفس الهدوء الذي تبناه والده عندما ولج هو الآخر إلى غرفة نومه، كأنهما متفقان على عدم ازعاج عفاريت المنزل و جِنته.
اطفأ النور فور ولولجه إليها، اتجه إلى سريره الذي اهتدى له رغم الظلام الدامس و رغم البعثرة التي تشوب المكان.
زحف على سطحه بتثاقل شديد ثم استلقى و اغمض عينيه في محاولة لإغراء النوم، لكن هذا الاخير كان قد حدد موقفه بالفعل من نوح، ألا وهو الهجر.

زُلال | Clearحيث تعيش القصص. اكتشف الآن