٧:بوابة للذكريات

20 2 3
                                    

امتقع وجهه من ما سمع.
استدار ببطء ناحية لُجين، كانت لاتزال تخربش على اللوح أمامها بنفس الوتيرة.

"عذرا؟!.." قال نوح بتعجب

"ماذا؟ هل انستك بضع سنوات صديقتك العزيزة؟" علقت لجين بوجه جامد دون الالتفات إلى نوح.

لم ينطق صاحبنا بكلمة، و اخذ يبحث بين ثنايا ذاكرته عن هذه الفتاة.

تأكد حينها بأن شعوره الأولي الذي خالجه حيالها كان حقيقيا للغاية، لكن أين قابلها؟ و في اي فترة من حياته؟

"أنا.. في الواقع عندما رأيتك في المكتب بدوتِ مألوفة بعض الشيء لكن.. ذاكرتي سيئة للغاية.." قال نوح بتوتر بارز، كان قلقا من كونها لربما احد زملاءه من الجامعة او احد أقاربه، وهذه الاخيرة كانت اكثر إزعاجا بنسبة له، إذ فكر في انها قد تذكر معاملته لها صباحا لاحد معارفه او اسوء، لوالده و الذي سيكهرب العلاقة بينهما اكثر من ما هي عليه لا محالة.

لم تعلق لُجين، و اكتفت بالهمهمة جوابا على ما قاله.

لم يُرد نوح سؤالها مادامت لم تجب من تلقاء نفسها رغم الفضول الذي أخذ ينهش في صدره بشراهة.

برد قلم الرصاص جيدا ثم اخذ يخربش على اللوح الفارغ امامه بغير هدى. اراد التظاهر بالانشغال، لم يعرف لِم يفعل ذلك حتى، ليس و كأنه يهتم لهويتها إلى هذا الحد، هو يعرف في قرارة نفسه انها لو كانت مهمة بنسبة له لما نسيها من الأساس.

"إذا.. قلت انك لا تذكر الفتاة لُجين؟.. للأسف.." قالت بتهكم دون التغيير من وضعيتها.

توقف نوح عن الخربشة، اخذ نفسا عميقا محاولا السيطرة على اعصابه. لم يرِد ان يكون فظا اتجاهها، خاصة بعد ما حدث صباحا. لكنها ازعجته، شعر بأنها تراوغ، تريد إطالة الحديث لا اكثر.

التفت ناحيتها بخمول، ثم قال "هل ستقولين من اين تعرفينني ام ستواصلين لعبة الالغاز هذه؟"

التفتت نحوه بروية، ثم انفرجت اساريرها مباشرة بعد رؤية تعابير الامتعاض المكبوتة لديه. اخذت تضحك بأكثر طريقة طفولية يمكن للمرء ان يتخيلها، كانت ضحكتها تحفز عند المرء الرغبة في طلب بطاقة هويتها للتأكد من عمرها.

تخللت قسمات وجه نوح معالم البلاهة، لم يعرف ما المضحك في ما قاله. توقع منها ان تمتعض ردا على الطريقة التي تجاوب بها معها، لكن الضحك!

قالت بعد ان حررت كل ضحكاتها الوليدة "..اعتذر، انا فقط اجد صعوبة في تقبل شخصيتك هذه.."

ابتلعت بضع جرعات من قنينة الماء الخاصة بها، ثم اضافت "حقا لا ادري كيف سأذكرك بي.. اممم هل تذكر ابتدائية المرام؟"

ضيق نوح نطاق رؤيته قليلا ثم اجاب "ما هذه؟"

نظرت إليه في صدمة و قالت "هااه؟ لا تذكرها؟ لا تذكر المدرسة الابتدائية التي درست فيها؟"

اجاب بنفس تعابيره السابقة "كان اسمها المرام؟ لا اذكر حقا.. اخبرتكِ.. ذاكرتي سيئة.."

"لهذه الدرجة؟ عليك ان تتعالج صديقي!.." قالت وهي تُرجع ناظريها للوح و تنخرط في خربشاتها.

"ما بها؟ هل ارتدنا نفس المدرسة؟" سأل نوح بفضول بعد ان اقتنع انها لن تتحدث إلا تحت وطأة الإلحاح.

اجابت ببديهية "نعم! وكنا في نفس الصف، لمدة ثلاث اعوام متتالية.. حتى انتقلنا انا و عائلتي للجزء الآخر من المدينة و اضطررت لتغيير المدرسة لواحدة اقرب لمنزلنا الجديد.." سكتت قليلا ثم اردفت "كانت والدتي صديقة عزيزة لوالدتك السيدة رَجاء رحمها الله.."

ما قالته كان بمثابة فتيل اشعل النار في قش ذكرياته. ذكريات جميلة، لكنها ضبابية و عشوائية إلى حد ما. كأنها لقطات فارة من فيلم وثائقي قديم باللون الابيض و الاسود.

"لحظة.. اظن انني تذكرتك.. لكن.." سكت نوح قليلا ثم اضاف "لم يكن اسم الفتاة من ذكرياتي لُجين.. كان اسمها.." ثم سكت وهو يحاول جاهدا تذكر اسم الفتاة الصغيرة التي استيقظت للتو بعد ان كانت تغط في سبات عميق في كهف ذكرياته.

"جُلّ.." قالت لُجين بابتسامة خفيفة رُسمت على ثغرها.

اكتسحت عينيه لمعة خفيفة لكن جلية للناظرين، قال بحماس غير معتاد "جُل!!! انتِ هي جُل!!!"، اجابته بابتسامة عريضة "اجل!! اخيرا! و انا ايضا سررت برؤيتك مجددا نوح!"

"لحظة، اسمكِ الحقيقي هو لُجين إذا؟!" سأل نوح وهو يحاول إخفاء علامات الحماس التي اكتسحت محياه دون إذن، اجابت "اجل! جُل مجرد اسم دلع اعطاه لي والدي، كان يقول بأني أمثل جُل سعادة العالم بنسبة له، أليس شاعريا؟!.."

سكت نوح قليلا وهو يستذكر تلك المرحلة من حياته، تذكر وجه لُجين بوضوح باهر لكن لا شيء سواها كان بذلك الوضوح.

اعتدل في جلسته وهو يتأمل المشهد من النافذة المقابلة له. شرد في ذكرياته المبعثرة، بدا كانه يعيشها للمرة الأولى.

خالجه شعور بالانشراح دام معه بضع لحظات، ثم شعور بالضيق تدفق إلى صدره بغتة دون ان يعرف مصدره.

سأل نفسه لما لم ينبش قط في ذكرياته سابقا؟ لَم يراوده شعور الاشتياق لها قط كما يحدث مع العامة البشر، ربما ليس هنالك ما يستحق الشوق؟ فكر بعمق.. توصل إلى كونه يشتاق لأيامه مع والدته و حتى والده آن ذاك لكنه لا يشتاق لتلك المرحلة من حياته، لا يريد ان يرجع طفلا ..

"اراك تسرح كثيرا.." قالت لُجين وهي توضب اغراضها معلنة عن استعدادها لإخلاء المكان.

تلبك نوح قليلا من تعليقها، التفت ناحيتها فلاحظ استعدادها للانصراف فقال "ستذهبين؟" ثم القى بناظريه على اللوحة الخاصة بها، كانت غير مكتملة، لا توحي بأي شيء و غريبة إلى حد مخيف.

اجابت "بلى، اراك غدا في المكتب إن شاء الله" ثم انصرفت، تاركة لنوح المتنفس الذي كان يصبو إليه منذ وصولها.

تشرب نوح طعم السكون مجددا، لكن مع ذهن اكثر هدوءً هذه المرة. مرت دقائق قليلة عليه وهو قابع في مقعده، ممسكنا بقلم الرصاص، ينتقي بين اشرطة ذكرياته اجمل اللحظات و يعرضها على شاشة عقله حيث لا يوجد سواه.

اكتسحت ثغره ابتسامة خفيفة، ثم صرح لنفسه قائلا "ربما لُجين ليست عبءً ثقيلا في آخر المطاف..".

زُلال | Clearحيث تعيش القصص. اكتشف الآن