P30

71 13 4
                                    

عند ضفة الفرات في الأول من أكتوبر، كان اللقاء عنوانًا لفصل جديد؛ حكاية تزهر على شفاه الخريف.
عندما بدأ الفرات يعزف لحن المساء، والشمس تنسج خيوطها الأخيرة مودعةً يوماً مضى، التقت أرواح وتعانقت نظرات تحت سقف أفق مُلوَّن بأنغام الغروب.
حيث أهدى الخريف نسماته الأولى، تزين فيها الضفاف بلحاف السكون وشال الهدوء.
وقف هو بجانب الفرات، يتأمل المشهد البديع حيث تمازجت ألوان الشفق ببريق عيون، وتهامس صوت الماء مع اللهفة. نظراته التقت بزمردتين اخفيتا وراء خمار سُكري اللون، وإيقاع قلبه تسارع كأنغام العود.في سكون اللحظة، وبرهافة الحس، وشاعرية المكان، سرقت عيناها اللوزيتان الضياء من السماء، واختصرت الجمال في نظرة، أبهرته تلك الفتاة حاملة الرسمة والخمار السُكري، خُطاها تقطُر كبرياء، وفي عينيها حكايات لا تُروى إلا بهمس الغروب. يمشي والتردد يسابقه، والقلب يكاد يخرُج من موقعه، ينتظر اللحظة يقطف فيها الشجاعة ليُخاطبها.

فأغتنم لحظته وما كتبته الأقدار:

"إن الخمار السُكري يا سيدتي
قد كساكِ من الجمال ما يغري
زمرّد عينيكِ من بعيدِ
قد سحر الروح وما أدري."

ومضى في لحظات الانتظار ثائرًا، ولكن رزينًا قائلاً:
"هل لحظة للقاء؟ أم أن القدر يعبث بي؟"
وكأن قصيدة خبأها لهذا المساء:

أيا مرأىً في الخمار السُكريِ يغفو
والعينانِ كصفحات الزمردِ تبرُقُ
فالغروب قصيدةُ السما تلقى
وأنتِ شاعرتها، روايةُ الأرضِ تعلو
يا من بردائكِ السُكري خطوتِ
وفي ناظريكِ الأملُ مشتعلُ
غروب الشمس، لوحةٌ وأنتِ
بفنكِ يزيدها زُهيً فتجتملُ.

مرت الدقائق وتبادل الورد كان، بغتةً، تقاطعها الورود، يُقدمها خجلاً، والصمت يتربع على عرش الحوار. رؤيتها للرسم يتلوى بين يديها، فتألقت عيناها بتردد مُلفت وقد أخذت الوردة. "جميل اليس كذلِك؟!"، صوته يرجف برقة، تجيب بعفوية، "اظنك تقصد الغروب، إجل إنهُ كذلك."
تتلكأ يديها والوردة والرسم كمن يرقص بين يدين تأبى إلا الجمال، وبين الحديث قالت بصوتٍ يغني الحياء: أتحب الغروب؟ وهو بتلهف رد: أجل احبه كثيرًا .

شرد قليلًا وبأفكاره عانق الأفق، كان يتساءل فيما إذا كانت القصائد تجد مكانًا بين سطور قلوبنا.أدرك أن ليست هذه المرة الأولى التي تتأمل فيها الآفاق، وتُرسم لوحاتها على أوراق الزمن. في ذاك المساء العاري من التزيين، سوى بخمارها السُكري ورسمتها الخفية، تبادره الأسئلة عن هذه الخطوط السارية على دفاترها، فتقول بلطافة، "نعم، رسمة."

على المصطبة جلسا، ومقطع شعر يبحث عن مأوى في قلبه وهو ينظر لعيناها اللوزيتان، بينما يغيب شمس اليوم:

ففي عينيكِ لحظة صدق تتألق
وفي خجلكِ قصيدة شوق تَعتَلِق

لمح الرسم، فطريقة مشيتها وعمق نظراتها ترسم أبعاداً من الإعجاب؛ هي تبحث فيه عن السكينة والإلهام. أثار اهتمامه ما تخطه يداها، ربما أملاً أن يكون جزءًا من لوحتها الفنية.

فسمح لنفسه بالحديث فقال : "ليست أول مرة أراكِ بها هنا. هل تقصدين برسمتكِ غروب الشمس، أم للّوحاتِ فنٌ أعمق؟"

وجدت هي في شروده ما تبحث عنه، الإلهام للوحة كانت تنوي رسم الغروب لها، ولكنها وجدت ما هو أجمل. أربكها الاكتشاف، واختارت الصمت قائلة: "رُبما إذا كُتب لنا لقاء آخر، سأُريك ما رسمتُ."

دعى الأقدار لمصادفة جديدة، فأخذها ليختارا الطريق حيث يمتزج حديث الروح بحديث الفم، وكأن القدر كتبها منذ الأزل.وكأن قدرًا قد كُتب، يمشون سوياً، يتبادلون الأحاديث التي لا تنتهي.

الأفكار تتشابه، والروح تلتقي، الابتسامات تكشف أسراراً مختبئة خلف الكلمات. وهمس في ارتباك،

"لم تألفي الاقتراب، لكن المساء أسعفك، ولي همسةُ القرب."

نسّم الهواء وغنّت النجوم مقاربة المساء، تداعى الوقت ليقول وداعًا.
يتطلع إلى غدٍ، ربما يقدر لهم، وقهوة اللقاء تغلي قصائد أخرى.

"ربما في اللقاء الآخر يُحكى ما بقي، ويشرب قهوة الأمسيات."

وقبل الوداع، كان لزومًا أن يستجدي الأمل:

"أيا مرسى الأمانِ فيكِ وجدتُه
وفي خماركِ الأنس والوجدُ
أهديكِ من قصائدي عهدًا
أن يكون الأمس واليوم والغدُ."

لم ترغب في الرحيل وقلبها يرتجف، فلأول مرة أباحت لأحدهم بهذا القرب، تراءت لها الدقائق تسعى كالأبد. وابتسم هو لقلقها وحذر كلمتها، واطمئن بمشاركة النبض.

اقترب منها قليلًا فتدنى بحرص ثم قال اتودين إخباري بإسمك أم في اللقاء الآخر ايضًا
ضحكت فقالت: مياسين
واردف هو قائلًا وأنا أسمي زياد ..

هكذا بُنيت جسور من الأمل ورسُمت لحظاتُ من اللقاء، والغروب كان الشاهد الأجمل على نبضات قلب أُعيد له الحياة.

ومع الليلة القادمة والشمس التي تودع الأفق، فكر كلّ منهما بلقاءٍ آخر قائلاً: "شكرًا لكِ يا مياسين، يا صاحبة العينان اللوزيتان."

فتحمَلت الريح نبضات قلبين وهما يقولان: "الى الرؤيا مجددًا..."

أســمـاء آل مجيد

لِقاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن