P49

67 8 4
                                    

( الوشاح البُنّي )

‏ليلةٌ قاتمة من اليوم الثامن من مارس ، سنة 2014 ، تضيق على صدره وتخنقه كأنها مفترسه له ، هي قطراتُ المطر الخفيفة التي شاركته حزنه في تلك الليلة التي وجد فيها نفسه ذاك الطفل التائه في ذاك الشارع الطويل الفارغ ، فارغٌ من الأشباحِ والملائكة ، يجلس على الرصيفٍ مُتهالك مع ذاك الوشاح البُنّي ، لا يفارق رقبته أبدًا فقد كان هديةً من تلك الطفلة ذات العيون اللوزية، بعض أصوات الليل تصدح في رأسه لتقلب مشاعره إلى الحزن الخانق فكيف لذكرى بسيطة أن تجعل طفلًا صغيرًا لا يعرف معنى الحب أن يعرفه ، أن يصحو على هذه الذكرى الطاهرة على صدره في الساعة العاشرة ليلًا لتقذف به خارج لإستنشاق نسمات الفراق الموجعة , هي لم تكن قلادة الذكرى ، كانت قلادة الموت ، قلادة الجنون ، قلادة تتنافي ، قلادة الردى لم يعرف ماذا جرى لنفسه بعد ما أضاعها كانت الذكرى الوحيدة التي تبقت له منها ، تلك الفتاة الغريبة ، غريبة عن الحب والحياة ، قريبة من اللحد الفناء ، ما تبقى له ذاك الوشاح (وشاح العشق) الملفوف على عنقه ، وشاحٌ بُنّي كعينيه ، السماء حزينة اليوم ونشره المشاعر تقول أن خالد قد هلك بذكرها ، تلك الراحلة من قفص يدية ، كالغراب المهاجر هاجرت ، كالرمال المتناثرة تناثرت ، وفي بئر العشق إنرمت وكالخمرت خُمِّرت ، هي ليست إلا لحظات تذُكر وتجعله يستشعر شيئًا ولو كان قليلاً ثم يعود إلى ذاك البرود الذي اشتد عليه وكأنه قطرًا من قطريّ الكرة الأرضية ، بعدها قد أصاب الخريف قلبه ، وإحتل الجمود فكرة ودنا الحد من جسده ، وفارق الهواء روحه ، السؤال الذي لطالما طرح كيف تمكنت؟ ربما لم تتمكن ولكنه جعلها تُمكن ، ليلاً بعد ليلٍ بعد ليل ولم يذق طعم النوم قد راح شوقًا وصبابةً هكذا بلا عتابٍ ولا لوم ، قد أعطى تلك الأنثى الجاهلية ما طلبت ، قط أعطاها ذاك القلب المنسي ، جاهلية لأنها لم تفقه فيها هواه ومنسي لأنها نست ذكراه .
قالت له في إحدى المرات :
- أنا أسلمك قلبي فأسلم لي قلبك.
رد عليها:
- كيف لشخص أن يعطي سارق ما سرق بطلبه؟
هي قد أحببته وجعلته يحبها ، وهو قد أحبها بكل ما إمتلك من طاقة للعشقِ والغوصِ.. حتى انه كان يدوس له الوجد في كل شيء ، كان عشقًا نجميًا من شدة ضوءه والآن يبدو أن عمر النجم قد هلك وحان وقت الإنطفاء ، لقد أشعل ذاك الجرم ولهًا بكل ما إستطاع ، أحيانا يجب على المرء أن ينطفئ حتى يشتعل من جديد ولكن خالد مُختلف وهو يشتعل لمرّة وينطفئ مرّة واحدة في حياتهِ كُلِّها ولا مجال للاستهلاك ثانيةً ، كعلبة سمك صالحة للاستخدام مرّة واحدة ، إذًا فكيف سيجري الأمر فالمحب قد برد شوقًا وبكى صبابةً ونارًا وصوتًا ونفذ روحًا وحبرًا ، لا مجال أنه ذاك الوشاح الذي يُعانق رقبته أنه في منتصف كل شيء هو لا يستطيع التخلص منه ولا الاحتفاظ به.. كِلا الأمرانِ صعب وماذا يفعل في تلك الساعة لقد حذّرها سابقًا أنه إذا توهج بالحُب ثانيةً سيموت وهي قد أخذت وجدانه فعلى الأقل لن يضحي بجسده ثانيةً .
قال لها ذات مرّة :
- إذا ذهبتِ سأكون جلمودًا في طريق الحُب .
فردّت عليهِ:
- وإذا بقيت أنا سأكون جبلًا من الطاقة والحب لشخصٍ بائسٍ مثلك يا خالد .
ردّ عليها:
- ألا استحق هذه الطاقة ؟
ردّت عليهِ:
- لا...
يُمسكك بذاك الوشاح لِيقذف بهِ في الهواء ليطير بعيدًا.. عندما يُحلق الوشاح يُحلق معه الفُراق ..لا ذكرى ستبقى ولا قدم سَتُخطى.. في الدجى ، كركرة الهواء تثقب مسامعه هو حلمٌ ولكن في الواقع ، في تلك اللحظة السماوية تهيج السماء بالبرقِ لِيضيئ المدينة.. وقلبه.. شجرة الليمون.. أمامه يرى إمرأة تحمل الوشاح الذي رماه قبل قليل ..تقترب منه لتمد يدها نحوه قائلة:
- شاهدتك ترمي هذا الوشاح في الهواء أأنت بخير؟
يرد قائلًا:
- لا شيء فقد شعرت أن هذا الوشاح كان يقيدني أردت أن أكون حرًّا .
ترد عليهِ :
- الحرية ليست بالتخلص من القيود ، الحرية أن ترى تلك القيود عليك وتعلم أنك بكامل حريتك .
يرد عليها قائلًا :
- ماذا أفعل إن كانت تلك القيود تورث جسدي وتجعل دخانة يتطاير في الأفق؟
تنحني قربه لتقول بنظرة من الأسى :
- آرى أن موسقاك قد عُزِفت كثيرًا في قلب أنثى ما حتى أصبح الاستماع إليك مُمّلًا .
ينظر لها بنظرة خفيفة قائلًا:
- أنا قد عزفت لهم ألحاني حتى كرهوني.. هذا الوشاح هو هدية في إحدى حفلات العشق السابقة.
قالت له:
- هوّن عليك فأنت لست بليغ حمدي !
يرد عليها:
- هي لم تكن لي وردة الجزائرية.
ترد عليه :
- إذًا ماذا كانت ؟
يرد بنبرة من الشحيّب:
- كانت سُم.. سمٌ لذاك القلب الصغير. تضع تلك المرأة يدها على يده قائلة :
- أنظر أنت خارجٌ لتوّك من علاقة كانت مليئة بالجوى.. والهوى.. لقد بُحت لي بما فيك ، جيدٌ أن نُدرك معنى وجود الأشخاص في حياتنا وخاصة أولئك القريبون منا الذين سيصبحون أبعد مما نتصور إذا لم يكن هناك عقد شراكة في الحُب ، لا زلت صغيرًا.. ستعرف معنى كلامي حين تفعل ما قلت..
الآن كفاك نَحّيبًا وصبابةً وأنثر في هذا الشارع رائحة التخطي وإن كانت البيئة لا تسمح أهمس للحياة حتى تصرخ عليك أو لك ..وألمس الأشجار والنباتات واترك ما فيك من طاقة عليها حتى تنتشر مع الأكسجين لِتستنشقه تلك التي ما علمت من وجودك شيئًا أما عن هذا الوشاح ليبقى معي فأنت لا تستطيع تخطيه.
يسحب منها الوشاح بقوة قائلًا :
- أنا الذي أحببته وأنا الذي سأتخطاه فلا تظنين أني ضعيف .
ترد عليه :
- هذا ما توقعته الآن ما أنا سوى امرأة عابرة وسأمضي الآن وكاني لا أحد ولكن كُن أنت.

كورقة خفيفة سقطت من شجرة الليمون التي أمامه في الهواء وتشتت بسرعة اختفت هي . استجمع شتات نفسه ذاك الطفل البالغ من العمر تسعة عشر عامًا لينسى ويتناسى ويذهب كأنه رمحٌ متعبٌ إلى داخل المنزل.. لا أحد سوف يفكر في إغتيال قلبه بعد هذا.. يصل إلى منزله المنسي يفتح الباب بهدوء يصل إلى شرفة المنزل .. يجلس بكل هدوء أمام القمر ، يشغل صوت جارة القمر ليصبح حُرًّا في خياله ويمسك القلم ليبدأ بالكتابة ويطير... هكذا هم العشاق الذين ينرمون في عرض البحر أحدهم.. ينجو والثاني يُصبح كاتبًا أول جملة أدبية قد خطها قلمه كانت :

( أزحت الغطاء عن القلم كما تُزاح الأشرعة عن السفينة)

- خالد وليد

لِقاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن