P52

39 6 1
                                    

(تمرد الهيام )

في صباح الخامس عشر من يناير في إحدى مَحطات القطار،من بين ضجيج تلك الجموع كُنت أختلس النظر لعيناه دون أن يبوح فاهي بكلمةٍ واحدة،غارقةٌ بذلك الهيام فما أن لمحتُ أبتسامتهُ حتى أزداد ضجيج الحب بخافقي ،شعرهُ شديد السواد،وعيناه العسليتان،بهندامهُ الأسود بدا لي وكأنه لوحةٌ ذات طِرازٌ رفيع.
ران لمسامعي صوتٌ وكأنه لحنٌ عجيب من عالمٍ آخر
-هل أنتِ بخير ياآنسة أراكِ شاردة الذهن ؟
داعب بصوتهُ خيالي فأفقتُ من غيبوتي،أحمرت وجنتاي خجلاً لم أعلم حينها بما سأُجيب،تداركتُ نفسي بكذبةٍ صغيرة لأخفي تحت ردائها فراشة الحُب التي تود التحليق بين حقول أزهارهُ الساحرة
فنطقتُ بتمريرة خاطفة على عيناه تنتهي خفة خطواتها إلى الأرض.

-أنا مصابة بالزكام لذلك أشعر بالصداع قليلاً
-أنا أعتذر لتدخلي إن شِأتي سوف أصطحبك لمشفى قريب سيهتمون بكِ جيداً.
حينها شعرتُ بأنني قد أُصبت بزكام الحب لاحظ أضطرابي وتلك الرجفة!سقط كأس العصير من يدي،وبدأت أعاصير الوله تُمزق شُغاف قلبي،عصفت الأحاديث هواجسي هل أقتني هذهِ الفرصة للبقاء بقربه أم أهرب بعيداً.

-هل يمكنكِ السير قليلاً أشعر بأن حالكِ بدأت تزداد سوءاً والرحلة طويلة ربما تُصيبكِ الحُمى في الطريق؟

-شكراً لكَ لابأس سأكون بخير لدي دواء في حقيبتي

-كما تشائين،والآن أستميحكِ عذراً.
حينما دلف مُبتعداً بخطواتٍ مُتزنه،أحسست بلسعات طفيفة تسري بأوردة قلبي يُناديه ولكن ثُغري صامتًا.

بسبب شدة الطقس وتساقط الأمطار تم تأجيل الرحلة لحين أعتدال الجو،نهضت من مقعدي بمزاج غائم وأنا في طريق عودتي للمنزل أكتسحت خيوط شمسهُ سُحب سمائي لتستعيد إشراقها من جديد،كان يسير أمامي تعمدتُ اللحاق بهِ فتقاربت خطواتنا أصدرتُ نحنةٌ خفيفة ألتفت بكامل جسده ناحيتي.

-أهذه أنتي!هل أصبحتي بخير؟هل منزلكِ بعيدٌ من هُنا ياسيدة؟

-أنهُ على مقربةٍ من الحديقة العامة.

- لاح شبح أبتسامة على شفتيه إذن نحنُ نسير في الأتجاه ذاته .

في صباح اليوم التالي خرجتُ لشراء بعض الكُتب بينما كُنت مُحلقة بين سُحب الخيال كفراشةٍ أخترقت شرنقتها لتبحث عن ترياق الحُب لترتوي،أوقف خُطاي ذلك المنظر الجميل كان أشبه بلمعان قطر الندى على وجنتا أوراق الشجر،أحسستُ بأن طيفاً خفياً يسحبني من غَمد الكبرياء نحوه لعل سيف الهوى يُدميه هياماً،ضربت جبهتي بخفةً بأطراف أنامي لأستفيق من سحر أحلامي،تابعتُ المسير إلى غايتي ،مضى بعضاً من الوقت لأجد أكوام الكُتب تُفسح المجال له للسير بينها،كُلما ألتفتُ بناظري خِلسةً أراه بي مُحدقاً بي خِفيةً ،لازلتُ اتصفح المزيد من الكُتب دون أن أقتني منها شيئًا لاأملكُ إتزان التفكير فكل هواجسي تطوف حوله كالنحل يزاد تعطشاً ويشتهي الأرتواء من ينبوع العسل،ألتقت خطواتنا في لحظةٍ قيدني فيها ذلك الخيط المتوهج من ضوء الشمس الذي بدأ يُداعب مُقلتيه،تلك العيون بلونها العسلي الذي تمرد على قلبي بكل خيلاء،أمسك أغلفة إحدى الكُتب.
-هل لي بسؤال ياآنسة؟
أزحتُ ناظري عنه بأرتباك
-سَل ماشِئت (حدثتهُ قائلة)
-هل رنت أجراس الحب بداخلك يوماً لتجعل منكِ شخصًايختلف عن سابقه؟
أكتسحت مُهجتي زوابع الحيرة وكأن أحدهم أطلق العنان لريحها، حدثتُ نفسي بصمت:هل هذا مايسمى بلعبة القدر!بحثتُ عن قشة لأمسك بها لعلها تُنجدني من بين تلاطم كل هذه الأمواج،ولكن عبثاً طال الأنتظار لم تُمطر علي سوى سُحب الصمت،حتى أردف ناطقًا بنظرة كانت توحي بالكثير ...

-يجهلون ماالفؤادُ به مُتيمُ،لا الفاه يَجهرُبالهيامِ مُلوحاً
ولا سُقم الهوى يَرحم هشاشة أضلعي
تمايلت نحوه للنداء منه تَلهفًا
ولكن ماأن لَمحت التواري في عينيه حتى يأستُ من تكلمي...

قبل أن ثُثبت مرساة الوجوم أمسكتُ بمجاديف قوارب الإفصاح ولوجًا في تضارب الأمواج لمح الفؤاد منارة ليصطف كلام القلب لمسمعيه واشيًا
-أبلجَ الحُب بِمقلتي فأَضمَرهُ ثُغري ليُكثرَ حيرتي!يُؤرقُني ليل الجوى فماحيلتي!ظَمِئٌ إكتوى لُبّ الفؤاد من لفحِ الهوى.

أردف قائلاً:
لوكان للقدر وجنتان لقبلتهُ وأثنَيتُ عليه بقوافل الإمتنان تشكراً
أين كان هذا اللقاء مُخبئًا؟

أردفتُ بغيث الشوق الوابل فلم يعد داخلي لفيضهُ يتسع :

لم يَكن لقاءٌ عابراً كأني في أُفق السماء مُحلقة بأجنحتي بل أشد أرتفاعاً.

رمق كلانا الآخر بنظرةٍ باسمة.
-سأذهب لأحضار شيء لن أُطيل الغياب سأعود سريعاً.لم يكن الأنتظار مُحبباً لقلبي أبداً ولكنني في تلك اللحظة توددتُ له كان أجمل أنتظار أدفئني من صقيع حيرتي،أقبل نحوي بتلك الباقةُ المرصعةُ بأزهار الأقحوان والياسمين ليتمزج شذا عِشقنا مع عبيرها مُخلداً في طيات قلوبنا.

ختام عبد الصاحب

لِقاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن