الفصل 2 : لقاء

40 7 11
                                    

انقضت أيام الخريف وأقبلت أيام الشتاء، وسالت الأجواء بردًا وقُرًّا، فثار ما كان كامنًا من داء «مرغريت»، وعاد إليها نفثها وسعالها، فظلت تكابد من مرضها آلامًا جسامًا، لا تفارقها يومًا حتى تعاودها أيامًا، فإن ألمت بها لزمت سريرها لا تفارقه، وإن روَّحت عنها برزت إلى الخلاء في بكور الأيام وأصائلها تطلب الهواء الطلق والجو النقي، وربما ذهبت في بعض لياليها إلى ملعب التمثيل لتتفرج ما هي فيه، فتخلو بنفسها في مقصورتها ساعة أو ساعتين، ثم تعود إلى منزلها.

وكانت لا تزال ترى في المقصورة المجاورة لمقصورتها كلما ذهبت إلى الملعب فتًى في زي أبناء الأشراف وشمائلهم، لا يزال يخالسها النظر من حين إلى حين، فينظر إليها إن غضَّت عنه ويغضُّ عنها إن نظرت إليه، ولا يلتقي نظرها بنظره حتى يتلهب وجهه حمرةً ويرفضُّ جبينه عرقًا، كأنما جنى جناية لا مُقيل له منها، فلم تحفل به كثيرًا؛ لأنها لم ترَ في أمره شيئًا جديدًا، إلا أنها كانت تعجب لسكونه وجموده، طول إغضائه وإطراقه، ولتلك العَبرة من الحزن المنتشرة على وجهه، وكان أكثر ما يدهشها منه أو يعجبها أنه الفتى الوحيد الذي كان يبكي في ذلك المجتمع لمنظر المشاهد المحزنة التي تُمثَّل على مسرح التمثيل؛ لأنها تعلم أن الفتيان الفرحين المغتبطين بشبابهم وصحتهم لا يحفلون بمناظر الشقاء الحقيقية، فأحرى ألا يحفلوا بتمثيلها.

فإنها لخاليةٌ بنفسها في مقصورتها ذات ليلة - وكان الجو باردًا مقشعرًّا - إذ فاجأتها نوبة سعالٍ اشتدت عليها كثيرًا حتى كادت تسقط عن كرسيها ضعفًا ووهنًا، فشعرت بيدٍ تمسك يدها، فاعتمدت عليها دون أن تستطيع الالتفات إلى صاحبها حتى بلغت عربتها فركبتها، فشعرت بالراحة قليلًا، فالتفتت لتشكر لصاحب تلك اليد يده، فلم ترَ أمامها أحدًا، ورأت على بعد خطواتٍ منها إنسانًا منصرفًا فلم تتمكن من رؤيته، إلا أنها تخيلت صورته تخيُّلًا، فعجبت لأمره، ومضت في طريقها، فما وصلت إلى منزلها حتى شعرت برعدة الحمى تتمشى في أعضائها، فلزمت سريرها بضعة أيام لا تُفارقه حتى أبلت قليلًا، فقدَّمت إليها خادمتها بطاقات الزيارة التي تركها الفتيان الذين زاروها في أثناء مرضها تجمُّلًا وتَلَوُّمًا، فلم تقرأ واحدة منها.

ثم حدَّثتها الخادمة أن فتًى كان يأتي للسؤال عنها في كل يوم مرة أو مرتين، ولا يذكر اسمه، ولا يترك بطاقته، وأنه كان ينقبض انقباضًا شديدًا كلما أخبرته أنها لا تزال طريحة فراشها تشكو وتتألم، فاستوصفتها إياه، فوصفته لها، فلم تعرفه، وعجبت لأمره كل العجب، وتمنَّت لو رأته فشكرت له هذا الإخلاص النادر، الذي لا عهد لها به في أحد من الناس.

وأمرت خادمتها أن تخبرها خبره إن جاء للسؤال عنها مرة أخرى، فلم يلبث أن جاء، وكانت «مرغريت» جالسة في شرفة المنزل المطلة على الطريق فرأته، فعرفت أنه ذلك الفتى الحزين الذي كانت تراه في المقصورة المجاورة لمقصورتها في ملعب التمثيل، وأنه صاحب تلك اليد التي امتدت لمعونتها ليلة النازلة التي نزلت بها هناك، فأشارت إلى خادمتها بالنزول إليه واستدعائه إليها، ففعلت، فاضطرب الفتى لهذه الدعوة اضطرابًا شديدًا حتى كاد يرفضها، ثم شعر بمكان «مرغريت» من الشرفة فتَلَوَّم ومشى وراء الخادمة، حتى صعدت به إلى غرفة سيدتها، فتركته وانصرفت.

مذكرات مرغريت Where stories live. Discover now