الفصل 6 : البقية

15 7 7
                                    

3 يناير 1851

أين أنت يا «أرمان»؟ أنت بعيد عني جدًّا، بعيد بجسمك وبقلبك؛ لأنك لم تهمل كتابي الذي كتبته لك ودعوتك فيه لزيارتي وسماع اعترافي الأخير إلا لأن ما كان في نفسك من العتب والموجدة عليَّ قد استحال إلى نسيانٍ وإغفال، فأصبحتَ لا تذكرني كما يذكر المحب حبيبه، ولا تعطف عليَّ كما يعطف الصديق على صديقه، فليكن ما أراد الله، ولتَدُمْ تلك السعادة التي تنعم بها بين أهلك وقومك، فإني غير واجدةٍ عليك، ولا ناقمة منك شيئًا، ولا حاملة لك في نفسي إلا الحب والإخلاص والرضا بكل ما تأتي وما تدع.

لي عدة أيام لم أرَ فيها أحدًا من الناس؛ لأن الطبيب منعني من الخروج، ولأن أصدقائي الذين كانوا يعرفونني فيما مضى قد أصبحوا يقنعون من زيارتي بإرسال بطاقاتهم إليَّ مع خادمتي، ثم ينصرفون مسرعين كأنما يفرون من أمرٍ يخيفهم، ولقد كانوا قبل اليوم إذا أرسلوها لبثوا ينتظرون الساعات الطوال حتى آذن لهم بالمقابلة، فإذا ظفروا بها طاروا بها فرحًا وسرورًا، وإن حرموها عادوا آسفين محزونين!

ولا أدري لِمَ لا يقطعون بطاقاتهم كما قطعوا زياراتهم؟ فإن كانوا يظنون أنهم سيرونني بينهم في مستقبل الأيام صحيحة الجسم، طيبة النفس، أصلح للمعاشرة والمخادنة كما كانوا يعهدونني من قبل، فهم في ظنهم مخطئون.

لقد أحسنوا فيما عملوا، فإنني أصبحت لا آنس بأحدٍ في العالم سوى نفسي، ولا آنس بنفسي إلا لأني أستطيع متى خلوتُ بها أن أُسائلها عنك فتذكِّرني بك وبتلك الأيام السعيدة التي قضيتها معك في «بوجيفال»، وذكرى تلك الأيام هي العزاء الباقي لي عن جميع ما خسرتْ يدي.

ما كنت أظن يا «أرمان» أن جسم الإنسان يحتمل كل هذه الآلام التي أكابدها، فلقد تمر بي ساعات أعتقد فيها أن الألم الذي أكابده إنما هو ألم النزع، وأنني في الساعة الأخيرة من ساعات حياتي، فإذا استفقت قلت في نفسي: هذا ألم المرض، وقد عجزت عنه، فمن لي باحتمال ألم الموت؟

على أن نفسي تحدثني أحيانًا أنه إن قُدِّر لي أن أراك بجانبي في يوم من الأيام برئتُ من مرضي، وتراجعت نفسي وعُدت إلى راحتي وسكوني، فهل يُقدر لي الله ذلك؟

لا أعلم، فالمستقبل بيد الله، فليقدر الله ما يشاء وليفعل ما يريد.

24 يناير 1851

لم أُفارق سريري منذ أيام طوالٍ إلا صباح هذا اليوم، فجلست قليلًا بجانب نافذتي، وأشرفت منها على الحياة العامة، فوقع نظري على كثير ممن كنت أعرفهم من قبل سائرين في طريقهم لاهين مغتبطين، ولم أَرَ بينهم من رفع نظره إلى نوافذ غرفتي مرة واحدة، كأنما يمرون ببيتٍ لا يعرفونه، ولا عهد لهم به من قبل.

ما أشد وحشتي! وما أضيق صدري! وما أثقل هذا الجدار الذي يدور حولي!

لا أطيق النظر إلى سريري؛ لأن نفسي تحدثني أنه سيكون عما قليل سُلَّم قبري، ولا الوقوف أمام مرآتي؛ لأنها تحدثني عن نفسي أسوأ الأحاديث وأشأمها، ولا الإشراف من نافذتي؛ لأنها تذكرني بحياتي الماضية السعيدة التي حيل بيني وبينها، فأين أذهب وكيف أعيش؟

مذكرات مرغريت Where stories live. Discover now