الفصل 3 : غفلة من الدهر

21 7 8
                                    


انقضى الشتاء فانقضى بانقضائه شقاء «مرغريت» وعناؤها، فقد أبلت من مرضها، وأصبحت سعيدة بحبها، فلم يبقَ بين يديها إلا أن تبلغ من تلك السعادة نهايتها، فاقترحت على «أرمان» أن يتركا «باريس» وضوضاءها، ومزدحم الحياة فيها إلى مصيف يختارانه لنفسهما في بعض الأماكن الخالية، فقبل مقترحها وسافرا معًا يفتشان عن المكان الذي يريدان حتى بلغا قرية «بوجيفال»، وهي ضاحية من ضواحي باريس على بعد ساعتين منها، فوجدا في بعض أرباضها منزلًا صغيرًا منفردًا واقعًا على رأس هضبة عالية في سفح جبل مخضر، تجري من تحته بحيرةٌ صافية بديعة كأنما بناه بانيه لهما، فاكترياه، ونقلت «مرغريت» إليه من منزلها في باريس بعض ما يحتاجان إليه من أثاث ومتاع.

ثم عاشا فيه بعد ذلك عيشًا ناعمًا هنيئًا، لا تضطرب في سمائه غيمة، ولا تمرُّ بصفحته غَبْرة، ولا يكدر عليهما مكدِّرٌ من خواطر الشقاء ووساوسه، فكانا يقضيان نهارهما صاعدَيْن إلى قمة الجبل أو منحدرَيْن إلى سفحه، أو راكبَيْن زورقًا صغيرًا يسبح بهما على صفحة البحيرة جيئة وذهوبًا، أو جالسَيْن تحت شجرةٍ فرعاء تُظللهما من لفحات الهجير وتضمهما إليها كما تضم ثمارها، أو مضطجِعَيْن على بساطٍ من العشب الممتد في تلك البطحاء الفسيحة يتناجيان ويلهوان بمنظر الجمال الماثل في الشاطئ، والأمواه والأخاديد، والوديان والغابات والحرجات، والكهوف والأغوار، والغيوم والسحب والأضواء في تشكلها وتلوُّنها، والظلال في تحوُّلها وانتقالها، وفي رءوس الجبال اللاصقة بجلدة السماء كأنها بعض سحبها، وفي قطع الصخور المبعثرة على جوانب الغدران كأنها بعض أمواجها، وفي تلك المعركة التي تدور في كل يوم مرتين بين جيشي الأنوار والظلمات، فينتظر في صدر النهار أولهما، ثم يُدَال في آخره لثانيهما، حتى إذا جاء الليل، عادا إلى منزلهما فنعما فيه بألوان النعيم وضروبه، ورشفا من كل ثغرٍ من ثغور السعادة رشفةً تسري حلاوتها في قلبهما حتى تصيب صميمه.

مر بهما على ذلك عامٌ كامل، هو كل ما استطاعا أن يختلساه من يد الدهر في غفلته، ثم انتبه لهما بعد ذلك، وويلٌ للسعداء من انتباهه بعد إغفائه! فقد نضب أو أوشك أن يَنْضُب ما كان في يد «أرمان» من المال، وكان في يده الكثير منه، فكتب إلى أبيه يطلب إليه أن يبعث إليه بما يستعين به على البقاء في باريس مدة أخرى، زاعمًا أنه لا يزال مريضًا متألمًا لا يستطيع السفر، وكذلك كان يفعل من حينٍ إلى حين، فلم يأتِهِ الرد، فأقلقه ذلك قلقًا شديدًا، وظل يختلف إلى المدينة في كل يوم، يسأل في فندق «تورين» الذي كان ينزل به قبل اتصاله بمرغريت عن الكتاب الذي ينتظره فلا يجده، فيعود حزينًا منقبضًا، حتى إذا وصل إلى بوجيفال، ورأى «مرغريت» بين يديه، تَطَلَّقَ وتبسَّم كأنه لا يضمر في نفسه همًّا قاتلًا.

ولكن عين «مرغريت» أقدر من أن يُعجزها النفاذ إلى أعماق قلبه، فاكتنهت سره فكاشفته به، وقالت: «لا يحزنك شأن المال يا «أرمان»، فإن عندي منه ما يكفينا العيش معًا سنين طوالًا.»

مذكرات مرغريت Where stories live. Discover now