الفصل 4 : مناجاة

16 7 7
                                    

قال: «أحسب أني سمعتها تقول للحوذي عند ركوبها: إلى منزل المركيز جان فيليب.»

فجمد «أرمان» في مكانه جمود الصنم، واستحال لونه إلى صفرة الموت، ومر بخاطره مرور البرق ذلك الكتاب الذي رآه في يدها بعد عودته إليها من مقابلة أبيه، فتركه الحارس مكانه وذهب إلى غرفته، وعاد إليه بالكتاب، فتناوله منه بيد مرتجفة ونشره وأمرَّ نظره عليه إمرارًا، فأحاط بما فيه للنظرة الأولى، فارتعد جسمه ارتعادًا شديدًا، وتراجع خطوة أو خطوتين إلى باب القصر، فأسند ظهره إليه وأعاد قراءته، فإذا هو مشتملٌ على هذه الكلمات:
هذا آخر ما بيني وبينك يا «أرمان»، فلا تحدث نفسك بمعاودة الاتصال بي، ولا تسألني عن السبب في ذلك، فلا سبب عندي إلا أني هكذا أردت لنفسي، والسلام.

فعلق نظره بالكتاب ساعة لا يرفع طرفه عنه، ولا يقرأ منه حرفًا، كأنما هو تمثال من تماثيل الحديقة، وكان الحارس قد عاد إلى شجرته يشذب أغصانها، ويتغنَّى في صعوده إليها وانحداره عنها بقطعة من الشعر الغرامي يعجبه لحنها وإن كان لا يفهم معناها.

فإنه لكذلك إذ سمع صوت جسمٍ ثقيلٍ قد سقط على الأرض، فرمى بفأسه وهرع إلى ناحية الصوت، فرأى «أرمان» صريعًا معفرًا تحت عتبة الباب، ففزع فزعًا شديدًا وظنها الصرعة الكبرى، فأهوى بأذنه إلى صدره، فسمع ما بقي من دقات قلبه، فاطمأن قلبًا، وعمد إلى جرَّةٍ بين يديه فأخذ ينضح بمائها وجهه، ويدِّلك براحة يده صدره وصدغيه حتى استفاق بعد قليل، ففتح عينيه فرأى الحارس جالسًا بجانبه، ورأى الكتاب لا يزال في يده، فدار بعينيه حول نفسه، فمرت بخاطره في الحال ذكرى مصرعه القديم في هذا المكان عينه منذ خمسة عشر شهرًا، يوم ألقت «مرغريت» بنفسها عليه ورسمت على ثغره أول قبلة من قبلات الحب، فهاجته تلك الذكرى وصاح: «ما أبعد اليوم من الأمس!»

وأنشأ يبكي بكاء الطفل الذي حيل بينه وبين ثدي أمه، حتى بكى الحارس لبكائه، وأقبل عليه يعزيه عن مصابه، ويهونه عليه حتى هدأ قليلًا، فأمره أن يستدعي له عربة ففعل، فقام يتوكأ على يد الحارس حتى بلغها فركب وقال للسائق: «إلى فندق تورين.» فسارت به العربة إليه، حتى إذا لم يبقَ بينه وبينه إلا منعطف واحد مرت بجانبه عربةٌ فخمة مرور البرق الخاطف، تحمل رجلًا وامرأة لم يتبينهما للنظرة الأولى، ثم راجع صورتهما في خياله فإذا هما «جان فيليب ومرغريت»، وكانت مركبته قد وصلت به إلى الفندق، فدخل على أبيه هائمًا مختبلًا، فقال: «ما دهاك يا بني؟!»

قال: «قد خانتني يا أبتاه!»

قال: «ذلك ما أنذرتك به من قبل يا بني.»

ثم انقضى النهار، وجاء الليل فقضاه «أرمان» ساهرًا في مخدعه يراجع فهرس حياته مع «مرغريت» صفحة صفحة، ويستعرض في نفسه جميع أطوارها وشئونها، فلم تبقَ حركةٌ من حركاتها، ولا كلمةٌ من كلماتها، ولا صورةٌ من صور أعمالها، كان يراها بالأمس حسنةً من حسنات الإخلاص والوفاء، إلا رآها اليوم سيئةً من سيئات الخديعة والمكر، حتى وصل في مراجعته إلى الأمس واليوم الذي قبله.

مذكرات مرغريت Where stories live. Discover now